هذا المقال يحتوي على: 105 كلمة.

حجم الخط

remove add

“رحلتي ا لأولي إلى فرنسا”
للدكتور عبد الهادي التازي

تكمن أهمية هذا النص للدكتور عبد الهادي التازي في كونه يسمح للقارئ بمقاربته من مواقع مختلفة…
1– من موقع الكتابة التاريخية –وهو مجال ليس غريبا عن صاحبه– التي تزامنت مع تأزم الأوضاع الداخلية والخارجية بدول المغارب، فضلا عن التحول النوعي في فكر النخبة. ومراجعة اساليب الكفاح ضد المحتل. وفي هذا السياق يورد الدكتور عبد الهادي التازي قولة للملك (محمد الخامس) حول جبة الحماية التي ضاقت عن الجسد المغربي في مرحلة الخمسينيات.
2 – من موقع المذكرات واليوميات التي حرص فيها الدكتور عبد الهادي التازي على تسجيل جزئيات دقيقة، بأبعادها الرمزية، من الحياة اليومية للشعبين المغربي والفرنسي.
وبإمكان القارئ أن يبحث عن مداخل نصية أخري قد يجدها في المتابعة الاثنوغرافية، أو في رصد فضائل المدن مما يقربها من (نصوص الخطط) خاصة أن الكاتب لا يتردد في التفصيل المفصل لمظاهر (البنية التحتية) ل(باريس) الخمسينيات من القرن الماضي. وقد يجد القارئ في هذا النص مدخلا معماريا ل (فرنسا) الريفية و(فرنسا) المدينية بتاريخها المعماري العريق. وقد يجد هذا القارئ –أخيرا وليس اَخرا– (خارطة للطريق) تستقصي المسالك والممالك، وتدقق في التسمية والمسافة ودرجات الحرارة والبرودة إلى غير ذلك من الفوائد والمعارف.
قد يجد القارئ فيها كل ذلك، أو بعضا منه على الأقل، غير أن القارئ، أيضا، لن يستطيع تجاوز انتماء النص إلى المتن الرحلي من خلال الآتي:
أ– العنوان – العتبة (رحلتي الاولي إلى فرنسا) الذي يسمح للقارئ ب:
توجيه القراءة في سياق التعامل مع جنس محدد من أجناس الكتابة وهو الجنس الرحلي الذي أصبح، بفضل العنوان، واقعا لا يرتفع.
ب – وهي مجرد رحلة أولي، قد تتلوها رحلات أخري إلى المكان ذاته
ج – وهى رحلة تنتسب إلى صاحبها, بخلاف ما وجدناه عند رحالة آخرين فضلوا استعمال التنكير المقصود، لأسباب عديدة، في حين استعمل الدكتور عبد الهادي التازي ياء النسبة في العنوان، أولا، مدعما بضمير المتكلم ثانيا، مما يؤكد علي تحمل الكاتب لمسؤولية الكلام في ظرف دقيق من ظروف العلاقات المتوترة بين المغرب ، ودولة الحماية. يقول الدكتور عبد الهادي التازي, وهو يستعد لتحضير جواز السفر طلبا للارتحال ما يلي: (كل قرابتي كانوا لا يشكون في أن مجرد تقدمي بالطلب سيكون منبها للبوليس علي متابعتي وإلقاء القبض على… لا سيما والظروف بالمغرب عصيبة, والعلاقات بين الوطنيين والإقامة العامة في منتهي التوتر, بل ان السلطان محمد بن يوسف(محمد الخامس) بعث برسالة إلى الجنرال كيوم المقيم العام للجمهورية الفرنسية يؤكد فيها علي اختلافا لأوضاع بين الحماية ، وبداية الخمسينيات من القرن الماضي. (انظر الرحلة).
د – والعنوان يسمح، أيضا، بتحديد مسار الرحلة الفعلي، والذي برز في الوجهة التي اتخذها الرحالة نحو فرنسا، من خلال النص الموسوم بالعنوان أعلاه.
وانتماء النص إلى الرحلة، يفرض علينا التعامل مع بنيته، قبل التعامل مع العنوان ذاته. او، بعبارة أخري: التعامل مع الجنس، فبل التعامل مع اسمه. فليس كل اسم أجناسي يدل على الجنس ذاته، علما أن أجناسا عديدة قد لا تحمل اسمها الأجناسي.
ه – ولكنها، في الوقت ذاته، تنضوي تحت الخصائص النوعية للجنس ذاته. نضيف إلى ذلك، الخلط، كما أشار إلى ذلك “تودوروف” الشائع بين الأجناس وأسماء الأجناس.
في نص الدكتور عبد الهادي التازي “رحلتي الأولي إلى فرنسا” نلمس خصائص الكتابة الرحلية المشتركة، عادة، بين النصوص الرحلية، ونلمس في الوقت ذاته، خصائص نوعية كشف عنها النص بوسائل مختلفة.
الخصائص المشتركة
منذ الجملة الأولي، يصبح القارئ مرافقا للمرتحل في رحلته. وهذا ما تقدمه الرحلات عادة، بحكم تحول المرتحل إلى دليل لكل قارئ، أو متلق، يحذو حذو الرحالة في مساره الرحلي. ومن هنا تصبح الرحلة وسيلة من وسائل المعرفة التي تمر، عن طريق قناة السارد الذي يمارس عملية التفسير والتأويل، حسب قناعاته الفكرية، ومواقفه الأيديولوجية. وهذا ما يفسر تعدد الرحلات –فكرا وكتابة – بين رحالة وآخر، للمكان الواحد.
أما الخصيصة الثانية –بعد الخصيصة المعرفية– فهي الانخراط فيما اسميته –في موقع سابق– بالوصف المقارن الذي يكثر، عادة في الرحلات المتجهة إلى الخارج، دون أن يمنع ذلك من وجودها في الرحلات المتجهة نحو الداخل. فالرحلة، من أهم ا لنصوص التي يحمل فيها الرحلة – بوعي أو بدون وعي –مكانه الأثير في الحل والترحال. هكذا لم تغادر (فاس) ذاكرة الرحالة، أثناء وجوده بفرنسا، أو قبل الوصول إلى فرنسا، أثناء مروره بإسبانيا ذهابا وإيابا.
تفاعل الصور، إذن، في الرحلة المتجهة نحو الخارج، مكون مركزي في الكتابة الرحلية المنتسبة إلى هذا النوع. ومن ثم، تصبح هذه الصور المتفاعلة مرآة لتفاعلات الذات مع الآخر، سلبا أو إيجابا، كما أنها، من ناحية ثانية، مرآة لتفاعل الآخر مع القادم إليه، مما يسمح بالتعرف على مواقف شرائح اجتماعية عديدة سائدة لدي المجتمعين. ولعل هذا ما يبرر توظيف الرحلة في مجالات علمية وأدبية، فضلا عن تاريخ الأفكار والذهنيات، لدي العديد من الباحثين والدارسين.
وتأتي الخصيصة الثالثة، في هذا النص، مجسدة في اعتماد الرحالة على:
ا –التوثيق الدقيق لكل المرئيات، او المشاهدات من إنتاج حضاري متوارث، أو مستحدث، تميزت به (باريس) قديما وحديثا. والأمر يتجاوز خصيصة من خصائص الرحلة المشتركة، نحو مصداقية الكتابة الرحلية التي انضوت تحت إطار النصوص المرجعية، ولكنها، في الوقت ذاته، ارتبطت بالتجربة الذاتية للمرتحل، مما سمح للدارس بالتعامل مع محكيات السفر التي –كما سبقت الإشارة– حملت خصائص مميزة في السرد والوصف.
الخصائص المميزة:

تقدم لنا هذه التجربة نصا مميزا من نصوص ادب السفر. وتميزه لا يعود إلى طبيعة كاتبه التي كانت وراء ما انجزه الدكتور عبد الهادي التازي في ميدان المعرفة والكتابة، خاصة التاريخية منها. ولا تعود الى ما أنجزه من أسفار ورحلات في أنحاء المعمور، قد لا يعود هذا التميز إلى هذا أوداك، بل يعود، فضلا عن السابق، إلى خصوصية الكتابة ذاتها من خلال الاتي:

1– تغليب ضمير المتكلم على غيره من الضمائر مما منح النص خصوصية (أوتوبيوغرافية) قدمت للقارئ جانبا هاما من جوانب التفكير والتدبير لدي شخصية الدكتور عبد الهادي التازي. قد يقول قائل، باننا قد لانعدم الملمح الأوتوبيوغرافي في هذه الرحلة، أولتك، ما دامت الرحلة لحظة حياتية من لحظات الرحالة، غير أن ذلك لا يمنع من كون (رحلتي الأولي إلى فرنسا) تتقدم خطوات إلى الأمام في التعامل مع الذات من خلال الانصات إلى صدى هذه الأخيرة وانعكاساتها على الأحاسيس، أو الوجدان، أثناء تقديم المرئيات المختلفة.
2 – وإذا كان ضمير المتكلم المفرد من الضمائر الاستثنائية في الكتابة الرحلية (رحلة السكيرج إلى مصر في القرن 19علي سبيل المثال، فان ضمير المتكلم عند عبد الهادي التازي في هذه الرحلة يحقق الخصائص التالية:
أ – خصيصة الصدق النابعة من مسؤولية القول. ذلك أن الرحلات، عادة، قد تصدر عن الضمير المفرد الجماعي (“نا” الدالة على الجماعة) الذي يعد تنصلا فنيا من محاسبة قارئ يقارن بين معرفته الواقعية ومعرفة الرحالة. أما بالنسبة للدكتور عبد الهادي التازي، فانه يحرص أشد الحرص علي قول الحقيقة، دون أن يمنع ذلك من اختلاف الأحاسيس والانفعالات المختلفة أثناء الانتقال بين مكان وآخر، بين إحساس وآخر.
ب – استند ضمير المتكلم إلى وسيلة فنية مركزية تجسدت في اليوميات الدقيقة أثناء التسجيل، أو الكتابة، لمختلف مراحل الرحلة. وهذا ما برز في التوثيق الدقيق، يوما بيوم، عبر محطات الانتقال من مكان إلى اخر، أثناء الارتحال.

3 – تقطيع النص، فضلا عن اليوميات، إلى فصول وعناوين ومراحل (المغاربة ومنطقة “الألزاس” – الوصول إلى قنطرة “كيهل” على وادي الراين– وداعا باريز الفيحاء…). والتقطيع المشار إليه كشف عن التخطيط المحكم للرحلة التي خضعت لمنطق معين أكد علي ممارسة الرحالة للكتابة والتوثيق عبر مراحل الرحلة المختلفة.

4 – يمتد التوثيق، أيضا، إلى توظيف الصورة (صوة جواز السفر –الصور العائلية –صور مختلفة….) في السياق اليومي للكتابة. والرحلة، من الأجناس الأدبية التي تقتضي توظيف الصورة، سواء الصورة الأسلوبية او الصورة الفوتوغرافية، من ناحية، او اللوحة التشكيلية من ناحية اخري، لأهداف متعددة تخدم النص المكتوب، خاصة أن العوالم المنقولة تقتضي اقناع القارئ بما يقدمه الرحالة من عوالم يجهلها هذا الأخير، مما يتطلب حشد وسائل التشخيص، والبلاغ والإبلاغ، لتقريب المرئيات إلى القارئ.
5 – أنسنة الأمكنة التي برزت في الحديث الأليف عن المرئيات المختلفة، فضلا عن العلاقات الإنسانية التي جمعته بجيرانه الفرنسيين، بالمغرب، أولا، وأثناء، ثانيا، لقائه بهؤلاء، بالديار الفرنسية خلال الارتحال. والرحالة يقدم هذه العوالم بأحاسيس مرهفة، ووجدان مشتعل بالإعجاب بما يراه من مرئيات، أو بالنقد الخفيف لمظاهر محددة لا تساير القناعات الفكرية للرحالة، او الدينية، فضلا عن اختلاف الأذواق والتقاليد لكل من المجتمعين.

6 – ومن اهم خصائص هذه الرحلة استنادها إلى نظام من الثنائيات التي انسحبت علي: أ–المعجم المتوزع بين اللغتين العربية والفرنسية بدافع الفائدة والإفادة معرفيا و(بروتوكوليا) أو حضاريا. ب–ثنائية الداخل والخارج سواء تعلق ذلك بالمكان (المغرب وفرنسا) في مستوياته الطبيعية والحضارية والتاريخية، او تعلق الأمر بالأحاسيس التي ظلت مشدودة إلى الأهل والولد (سعد وبدر) وما يكتنف ذلك من شوق وغربة وحنين. ولذلك لم يتردد –على عادة المرتحلين إلى الخارج –الرحالة في استخدام أسلوب (الوصف المقارن)، كما سبقت الإشارة، بين العالمين مع إعجاب ملحوظ ب(باريس) جنة الله على الأرض د– ومع ذلك أنشدت هذه الثنائية إلى الداخل أكثر من الخارج. فالرحالة يتوغل في فرنسا، وعينه لا تغادر (فاس)، وهو يرنو إلى الطفل “بيير” ابن جيرانه، ومرافقيه في الرحلة، وهو يتذكر ولديه (سعد وبدر) بالمغرب، وتمثال السيد المسيح مصلوبا أمام “نوطر دام” ذكره بقول (سفير لنا بالأمس زارها وعلق عليها ساخطا غاضبا ومصححا بقوله تعالي: وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم)، والرائحة الطيبة تذكره بكل الأطاييب بالبلد الأصل… إنها رحلة في المكان، وهي، في الوقت ذاته، رحلة في الوجدان الذي سمح بنقل المتعة ممتزجة بالمعرفة إلى القارئ.
الرحلة، إذن، حلقة من حلقات الارتحال للرحالين المغاربة الذين حاولوا نقل تجربة الالتقاء مع الآخر من مواقع مختلفة. والدكتور عبد الهادي التازي، واحد من هؤلاء، بعدان أيقظت فيه رحلة (محمد بن الحسن الحجوي) إلى فرنسا، قبل نحو من ثلاثين سنة، ورحلة الدكتور عبد الهادي التازي الأولى إلى المكان ذاته كانت في بداية الخمسينيات من القرن الماضي، أسئلة جديدة، حول علاقة (النخبة المغربية) بالآخر، وهي المنتسبة إلى مرجعية ثقافية ودينية مشتركة. وخاصة أن الرائي ليس كالسامع. وهذا ما توفره الرحلة لرحالتها ولقارئها، أيضا، من معرفة وتصحيح وإعادة نظر، ف (…الفقيه، أي فقيه، قد يغير رأيه حول نازلة أصدر فيها حكما قبل أن يرحل، يغير رأيه إلى آخر نظرا لما استجد عنده من رأي وما رآه من صواب…) من مقدمة المؤلف.

عبد الرحيم مؤذن

شارك هذا المقال على:
رحلتي الأولى إلى باريس
مقدمة “رحلتي ا لأولي إلى فرنسا”

كتب 62 مساهمة في هذه المدونة.

حول الكاتب :

إن أ.د.عبد الرحيم مؤذن، شخصية إنسانية وثقافية وإبداعية.فهو أديب وقاص وناقد مغربي وباحث خاصة في أدب الرحلات . ولد بمدينة القنيطرة المغرب سنة 1948 وتوفي ب هولندا في 27 يوليو 2014م.

editأكتب له أو تتبعه على:

علق على هذا المقال :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

*account_box
*email
*comment_bank
You may use these HTML tags and attributes: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <s> <strike> <strong>