عاشوراء في ذاكرة عبد الرحيم مودن وبقلمه
” لا أذكر من “عاشوراء الطفولة” سوى لقطات شريط تغيم أحيانا، وتشرق- بوضوح لا مزيد عليه- أحيانا أخرى وفي الحالتين معا، لم يكن الشريط مسترسلا، أو منتظما، بل كان، في جوهره، “مونتاجا” أو تركيبا ألحم فيه الصور بمواد أولية تعود إلى الحواس الخمس، قبل أن تعود إلى التنظيم المعقلن أو الإرادة المعلنة أي القصدية المباشرة. ليس أمامي، الآن، سوى ملإ الفراغات أو البياض الذي لا مفر منه هو شريط من من الحواس الخمس. فيه من رائحة فطائر بلدية، أو شيئا شبيها بذلك، تصفع؟ أنوفنا مع فطور الصباح الفائح بروائح السمن وعبير الشاي المغلى تسعين درجة وفيه من صوت مذياع، محتكر من قبل الأب، ولكنه يجاهد في الوصول إلى آذاننا بأنغام شرقية- دينية في الأغلب- صادرة عن “أم كلثوم” أو “كارم محمود” وفيه أيضا من ترسبات بخور الليلة السابقة الرخيص وهو ينعش الأحياء ويذكرنا بالأموات…
ودوران الشريط، عبر بكرة الذاكرة، لا يمنع من استعمال لقطة “الزوم” zoom لتقديم أجمل اللحظات مجسدة في طبق الفواكه الجافة المقسمة بين الكبار والصغار، دون نسيان حبيبات الكعك الموردة الحواشي، والمنقطة- وهو أمر نادر في كل الأحوال- بخالات “النافع” و”الجلجلان” …وبجانب هذا الطبق الاحتفالي، كنا نتسابق في اليوم الاحتفالي أو في اليوم الموالي، نحو القادمين من الأهل، ومعظمهم من الحواشي البعيدة، للحصول على قطع الحلوى المسننة والتي لا مثيل لها لونا و طعما ورائحة. كانت أشبه بعينات من صخور مختبرية متعددة الألوان، متنوعة المصادر المعدنية وكان أجمل هذه الصخور ما تسابقنا على اقتنائه بفرنكاتنا القليلة من بائعه الشهير بحمله لهذه الحلوى البيضاء الشهية والملتفة حول قصبة خيزرانية لامعة ترسل طقطقة مدغدغة عند جز البائع لقطعة من قوامها الحليبي دون أن تسيل أو لصفحتها الهشة دون أن ينفرط عقدها المصنوع من جلجلان وعجين رائق يسيل له لعابنا قبل أن نقتني قطعة في حجم عقلة الأصبع.
وهذا الشريط ل”عاشوراء” الطفولة هو شريط الفتوة الذي نشعل فيه نارا لا تنطفئ إلا في وقت متأخر من ليلة العيد. وهذه اللقطة لم تسلم من مؤثرات أخرى جاءتنا من أفلام “الهنود الحمر” برقصاتهم المشوبة بلغة النار التي كانت إعلانا- كما كان يفعل الهنود الحمر- لبداية صراع الأزقة، وظهور زعامات الدروب، التي تبدأ في المطاردة للزعامات المضادة، أو من ناحية أخرى لاستعراض العضلات أمام الأفرنة التقليدية وهي تغص بفتيات وفتيان الدرب أمام صفائح الحلوى، خاصة صفائح الكعك المتوارث إلى الآن روائح الدخان والبارود، وأصوات انفجارات مكتومة، وأخرى يتردد صداها من بعيد، وأسلحة متنوعة توزعت بين السيوف والأقواس، والمسدسات التي توهم الرائي بخراطيشها الحقيقية وأخرى واهمة ترتد إليها الطلقة الفيلينية المشدودة بخيط رفيع إلى فوهة تتربص بالمتسللين من الدروب القريبة أو البعيدة. كانت ليلة عاشوراء احتفالا لا بداية له ولا نهاية. فبدايتها استرجاع لاحتفال لم يتوقف بعد ونهايتها تظل مفتوحة على ما سنرويه من حكايات، وحكايات مضادة في الأيام التالية.. هذا ما خيل إلي… ./.