نماذج من تاريخ الإشهار في المغرب
عبد الرحيم مؤدن
في تاريخ الإعلان بالصحافة المغربية، لم يكن الجانب الجمالي واردا، انطلاقا من المنتوج السائد آنذاك، لدى المشرفين على هذا الإعلان. ولو حاولنا تصغح النماذج الصحفية النادرة في مرحلة الثلاثينيات، على سبيل المثال، لوجدنا أن الإعلان التجاري بمجلة المغرب كان جزءا من المقال أو الخبر الصحافي قبل أن يكون كيانا أو [ نصا ] قائما بذاته ممتلكا لعناصره الموضوعية والشكلية.
فالإعلان عن حليب “مون بلان” أو ( الجبل الأبيض)1 أو الإعلان عن شركات النقل، فضلا عن الإعلانات الأخرى ، وأغلبها كان تابعا للشركات الفرنسية مثل شركات البترول أو بيع السيارات … الخ ، أقول إن هذه الإعلانات لم تكن نشرة اقتصادية أو سياحية – تبعا لطبيعة الموضوع – منتمية إلى المتن العام.
في مرحلة الأربعينيات، لم يخرج هذا الإعلان عن التصور السابق . أما بالنسبة لمرحلة الخمسينات، فإن الصحافة المغربية ( رسالة المغرب / جريدة العلم / جرائد الشمال … الخ ) اتجهت نحو تقديم النص الإعلاني باجتهادات معينة راعت الجمع بين الفائدة ونشر نوع من الوعي لدى المواطن، مع احترام خصوصيته الدينية والثقافية.
ومن الضروري الإشارة إلى أن الإعلان الثقافي والغني كان من النادر العثور عليه في هذه المرحلة لأسباب تعود إلى وضعية الثقافة المغربية ذاتها. ومع ذلك، لم تتردد رسالة المغرب ، مثلا، في تقديم الفن المغربي (مريم أمزيان / أحمد الإدريسي) ودعت —من ناحية أخرى— إلى اقتناء بعض الكتب الهامة التي تساير الخصوصية المغربية ( إلى كل مدرس وكل تلميذ : اطلبوا دروس تاريخ المغرب. تأليف الأستاذ الهاشمي الفلالي. رسالة المغرب. شتنبر 1952). كما أن الصفحة الأخيرة كانت تخصص -هذه المجلة — للأخبار العامة ومنها أخبار الثقافة والفن بالمشرق أولا وأوروبا ثانيا.
في الستينيات سيصبح الإعلان ضرورة لازمة للصحافة المغربية. فالمرحلة مرحلة بناء للدولة والإنسان. ومن ثم لعب الإعلان دورا كبيرا في نشر الوعي الصحي والاقتصادي والاجتماعي ، في حين ظل الإعلان الثقافي بعيدا عن اهتمامات المشرفين على الإعلان. وفي الستينيات أيضا دخل [ اللون ] ميدان الإعلان، واستفادت الصحافة المغربية ( مجلتا الأطلس والمشاهد مثلا ) من تجسيد البضاعة المقدمة بلونها الطبيعي، فضلا عن مؤثرات اللون على الذهن والذائقة.
وسيأخذ الإعلان التجاري مسارات أخرى بعد أن تحول إلى مؤسسة متكاملة كما هو الشأن في السنوات التالية لمرحلة الستينات. ولو حاولنا إجمال أهم ملامح الإعلان المغربي طوال تاريخه لوجدنا الملامح التالية:
- -كان الإعلان مكملا للمقال أو المين العام في الصحيفة أو المجلة.
- -اعتمد على الخط أو الكتابة أكثر من اعتماده على الصورة.
- -وفي حالة وجود الصورة فإنها إما أن تكون تلخيصا للمقال أو تفسيرا له.
4- وهي الصورة أو الرسم — تتسم بالتواضع من حيث الإنجاز الفني بالرغم من تقديمها للأوضاع المطلوبة ، أي الأوضاع الاستهلاكية للإعلان.
- – غياب اللون عن الإعلان ، مدة طويلة ، إلى حدود بداية الستينات من القرن الماضي .
- – النموذج الفضل في الإعلانات المغربية يتأرجح بين الرجل التقليدي في أغلب الأحيان، والرجل العصري [ الحداثي ] – دون التخلص لهائيا من رواسب التقليد – في أحيان قليلة.
- يأتي في المرتبة الثانية الطفل بأوضاع مختلفة. أما المرأة – خاصة الحديثة – فلم تدخل مسرح الإعلان إلا في بداية الستينيات.
- تميز الإعلان المغربي بالتكديس. ففي صفحة واحدة من مجلة السلام، ج، 9، س،1، يونيو 1934، وجدنا الإعلانات الطبية والرياضية وأدوات البناء ولوازم المدرسة والأدوات الكهربائية…الخ. وللأمر مبرراته اجتماعيا مثل ظروف الحرب وغلاء الورق أو ندرته… الخ .
9 – طغيان الجانب الوظيفي على الجانب الجمالي، والمباشر على الدلالة، والنمطية على التفرد والخصوصية.
10- ولم يكن التعامل مع الإعلان خاضعا لمنظور علمي دقيق يتم من خلاله استغلال الفضاء — خاصة فضاء الصفحة — أو البياض، وتوزيع الزوايا والمساحات، وتقسيم مواقع الشخصيات الإعلانية. علينا أن ننتظر المراحل المتأخرة من الستينيات لنجد نوعا من التقدم النسبي في التلوين والإخراج ..الخ .
11- ارتكز الإعلان التجاري على المكتوب، أي الإعلان المرتبط بالصحافة المكتوبة. أما الإعلان المرئي (( لم يتعامل الإنسان المغربي مع التلفزة إلا مع بداية الستينيات)) أو المسموع ،فلم يكن بالإمكان إنجازه لأسباب عديدة. وظلت نافدة السينما -من خلال بعض المؤسسات الإشهارية- هي النافذة الأساسية لتقديم إعلان تجاري مثير ومتميز إخراجا ولونا وصوتا.
1– عصير الحامض المغربي
يقدم هذا الإعلان مستوى من مستويات الحوار بين الأصالة والحداثة، إنها بداية الخمسينات وقد مر على الاحتلال الفرنسي ما يقارب الأربعين عاما. الأصالة مرموز إليها بالسور التقليدي لإحدى المدن المغربية العريقة من خلال مؤشرات معمارية دالة أهمها :
المسجد وهو أعلى بناء في المكان,
الدور التقليدية بسقفها القرميدي الثلاثي.
الضريح(على اليسار) بقبته الموازية للسقوف السابقة .
السور ذاته المستوحي لواجهة قلعة دفاعية بحافتها المسننة من جهة، والحافظ على امتداده الطبيعي -من جهة ثانية — الذي يفصل بين المدينة التقليدية والخارج بكل دلالاته.
وقدمت كل هذه العناصر من خلال أسلوب اللقطة البعيدة التي تعمدت جعل السور ومفرداته مجرد خلفية أو ديكور مصفر مغلف بالسواد .
أما الحداثة فتتجسد مفرداتها في : مشروب سيم الممتلئة زجاجته عن آخرها، وعلى سطحها بطاقتان إشهاريتان : الأولى دائرية قريبة من عنق الزجاجة، والثانية مربعة وهي قريبة من الأسفل وهي أكبر حجما من بطاقة جزئها الأعلى. وقاسمهما المشترك الإشهار لهذا المشروب باللغة الفرنسية من خلال تصغير الاسم وتكبيره، فضلا عن تقديم المعطيات الأساسية للمتلقي [ الشارب ] من مادة [ الحامض ] وكم [ 25 سنتل ] …الخ.
وإذا كانت زجاجة المشروب المعلن عن عصيرها باللغة الفرنسية هي مربط الفرس في تقديم المظهر الاستهلاكي للحداثة، فإن هذه الأخيرة يتم تعريبها بتنويعات خطية عن طريق تكوين جملة مفيدة بصيغة الأمر بصورة تنازلية بعد أن تم تدوير اسم المشروب بنيشان بارز على الشكل التالي : اشرب سيم حامض/ صودا بعصير الحامض المغربي.
والتأمل لهذا الإشهار المكتوب يجد جملتين أساسيتين هما : الأولى فعلية بصياغة الأمر [ اشرب ]
والثانية اسمية تقرر حقيقة المشروب [ صودا بعصير الحامض المغربي 1] والعلاقة بينهما -دلاليا – تكمن في أن الجملة الاسمية إجابة شافية عن طبيعة الحامض الموصوف ب : [ المغربي ] مغربي بالنسبة لمن ؟ لنتذكر أننا في سنة 1952 !!
وتقابل الصورة المتضخمة للمشروب المقدم بخطوط كبيرة تتوزع بين السواد والبياض، صورة الشارب التي تعادلها في الكبر أو الضخامة. ملامح منفرجة، عينان ضاحكتان، فم مبتسم. الوجه برمته يشي بالانتعاش الذي حوله إلى وجه طفولي. وصورة الشارب -من ناحية — تقوم على مؤشرين : ( أ) مؤشر الطربوش التركي-( ب) البدلة العصرية بربطة العنق البارزة.
هاهي الحداثة من جديد تعلن عن نفسها بوضوح لا مزيد عليه : لنشرب سيم حامض الذي ينقلنا من الماضي إلى الحاضر ، إلى العصر . الحداثة. أخيرا، وليس آخرا، ليفتح القارئ عينيه جيدا اتجاه يسار الصورة ، في الزاوية السفلى سيجد كلمات لاتينية مكتوبة بشكل عمودي على الشكل التالي : PUB٠F٠JACQUIN. إنه اسم العلم الناشر لهذا الإعلان أي المؤسسة الأجنبية التي كانت وراء الحداثة سواء كانت مباشرة أو ممغربة ، سواء تعلق الأمر بصناعة المشروب أو بصناعة ذهنية.
2 – الطفل والإعلان
حصر الطفل في الإعلان التجاري المغربي بشكل دائم. ويمكن القول بان الطفل كان عنصرا أساسيا من عناصر إنجاح الإعلان التجاري، وذلك من خلال المظاهر التالية:
- تقديمه في حالة ابتسام. والابتسام ناتج عن استهلاكه، طبعا، للمنتوج المعروض. كما أن صورة الابتسام تثير حالات انفعالية لدى المتلقي تتوزع بين الخوف والرغبة، التجربة المحدودة والتماهي المطلق.
- توزعت صورة الطفل المغربي بين الملامح الأوروبية. وفي كثير من الأحيان يتم تطعيم الملامح الأوروبية بعناصر “عجائبية” حسب المنظور الأجنبي السياحي لهذا الطفل ( الطاقية / الجلباب / الشعر الأكرث.. الخ) الذي يرتبط في ذهن الأجنبي- بأصالة وهمية أو شكلية مفصلة على مقاس الأجنبي.
- هذا المنظور السياحي ظل متحكما في تقديم الطفل داخل أسرة محددة. وفي غالب الأحيان تقدم هذه الأسرة في حالة انتشاء وسعادة غامرين 1!!
- يقدم الطفل، عادة، من الرضاعة إلى اليفاعة. ومن ثم، فالمنتوج الاستهلاكي المعلن عنه، يحكم الحصار حول الكيان الأسري، والاجتماعي هدف إبراز ضرورة الإعلان، للإنسان والمجتمع، في مختلف المراحل والأعمار.
- ولم تستطع الصحافة المغربية التخلص نهائيا من المنظور الاستلابي الذي مارسته الصحافة الأجنبية عن طريق تقديم طفل نظيف جدا، لامع جدا، قوي جدا. أشقر الشعر – ولو بدون ألوان – ملابسه تساير آخر التقليعات!! ولحد الآن، ما زالت نماذج من الصحافة الإعلامية العربية — المرئية خاصة – أسيرة لهذا المنظور الاستلابي. ( يمكن الرجوع إلى شخصيات الفقرات الإعلانية في التلفزة الخليجية أثناء تقديمها لمواد أو بضائع معينة ) 2 .
- التركيز على الطفل، في الصحافة العربية، محاولة للتأثير على الكبير قبل الصغير. فالمستهدف، أساسا، هو رب الأسرة أو ربتها، قبل أن يستهدف الطفل ذاته الذي يصبح أداة مؤثرة في عملية اقتناء المنتوج أو البضاعة.
3 – الإعلان القاتل أو الفرسان الأربعة.
استطاع هذا الإعلان أن يخلق متخيلا جديدا لم يخطر على بال المتلقي. واستطاع أن يضيف شخصية رابعة إلى شخصيات ألكسندر ديما “Dumas ” الشهيرة في قصته الشائعة الصيت : الفرسان الثلاثة.. “Les trois Mousquetaires” . الشخصية الرابعة هي شخصية “شيلتوكس ” مبيد الحشرات. والإعلان لم يكتف أصحابه باسترجاع قصة الفرسان الثلاثة ، وإضافة فارس رابع، بل إن الإعلان قدم الفرسان الأربعة الجدد !! إنها الصفائح الأربع لهذا السائل القاتل والمصنوع من مادة حاسمة هي مادة “الديالدرين” والصفائح تشبه الفرسان، أو الفرسان يشبهون الصفائح بقبعاتهم، أو سداداتهم، الرشيقة. فإذا كان فارس “ديما” يعتمر قبعته الأرستقراطية الزاهية بريشها الملون، فان قبعة فارس “شيلتوكس” أشبه بالخوذة الصلبة المقاومة لكل الرجات أحيانا، وهي، أحيانا أخرى، أشبه بمفتاح قنبلة لا تبقى ولا تذر . والفرسان الأربعة هم عل التوالي : – شيلتوكس .2 – قنبلة شيلتوكس الممتاز . 3 – مورطوكس . 4- سائل شيلتوكس الممتاز .
والإعلان لا يتردد في الإفصاح عن مصدره الأساسي المجسد في شركة شيل Shell ومن الطبيعي أن تتم عملية النحت اللغوية عبر تركيب جديد يجمع بين الاسم “Shell ” ( شيل) و “TOX” المرتبطة، أساسا بالسم والتسميم الموجه للحشرات، هدف خلق مصطلح فعال يحقق الأهداف المرجوة.
يغلب على الإعلان الكلام الفرنسي المسيطر على فضاء النص برمته ما عدا مساحة ضيقة تجسدت في العلبتين أو الصفيحتين الموجودتين على اليمين وقد حملتا اسم الفارس المرعب بالعربية أو بالفرنسية المعربة أو العربية المفرنسة.
ولا شك أن فارس “ديما” “Dumas ” هو الذي يؤسس لعملية الإقناع، إقناع المتلقي باقتناء هذا المبيد الفعال، الذي بضربة – أو رشة – واحدة من سيفه يطيح بكل الحشرات الضارة، علما أن هذا الفارس — شيلتوكس — يتجاوز فارس “ديما” “Dumas ” بكثير كما يدل على ذلك رقم (4) عوض الاقتصار على رقم (3). انه يشبه الفرسان الثلاثة، ولكنهم، في الواقع، فرسان أربعة. وفي كل الأحوال، لم يخرج هذا الإعلان عن دائرة الحكاية، حكاية الفرسان الثلاثة موظفا العناصر التالية الواردة في الحكاية وهي :
التشابه ( تشابه ملامح الفرسان أو مكونات الصفائح ) .
القوة ( القوة الجسدية أوقوة الفعالية ).
الأناقة والجمال ( جمال اللباس وجمال الصفيحة ).
الرشاقة ( ضربة السيف و الرشة الخفيفة ).
الكاريكاتور ( سقوط الخصم أو جندلة الحشرة ).
إثارة القارئ، وتحفيز المشتري ( متعة الحكاية واقتناء المبيد الحشري )
4 – الإعلان الثقافي والفني
لم يحظ هذا النوع من الإعلان بالعناية والاهتمام كما حظي به الإعلان التجاري المحض. والأمر لا يحتاج إلى تفسير بحكم مردودية الإعلان التجاري كما هو متعارف عليه في المجال الإعلامي والإعلاني أيضا.
في الصحافة المغربية كان الإعلان الثقافي يظهر بين الفينة والأخرى، من خلال المظاهر التالية: (1) – مظهر المتعة واللهو البريء كما هر الشأن بالنسبة للشريط السينمائي أحيانا، أو بالنسبة للقاعة – أحيانا أخرى – المسرحية التي تقدم عروضا متنوعة تجمع بين المسرح والغناء، بين الألعاب السحرية والألعاب المباشرة أو الجادة ٠
( 2) – الإعلان الثقافي بواسطة الكلمات أو الأحرف دون عوامل مساعدة من صور أو رسوم (انظر، مثلا، الإعلان السينمائي بجريدة العلم. ع 2276 ٠ 29ا08ا1956 ).
(3) – الإعلان الثقافي أو الغني النموذجي إلى الحد الذي وجدنا فيه، في بداية الخمسينات (1952) مجلة رسالة الأمة تعلن، على ظهر الغلاف، عن لوحة زيتية للرسامة المغربية المعروفة “مريم أمزيان” وهذا هو موضوع هذه الورقة.
5-١لإعلان١لثقاي و ١لغي، لوحة “اعتماد” ل”مريم أمزيان”.
اعتماد زوجة “المعتمد بن عباد” الخليفة الأندلسي الشهير. اللوحة- العلاف تخلو من الألوان- لأسباب تقنية ومادية- مقتصرة على لون واحد، ووحيد، هو اللون البني الذي سمحت به عملية الطبع آنذاك.
إجمالا، يمكن إرجاع اللوحة إلى المدرسة الانطباعية الذائعة الصيت برساميها الكبار (ماني/سيزان/موني..) وكما هو معلوم، فالمدرسة الانطباعية لا تقدم الموضوع إلا في إطار جزئي يقوم على زاوية الالتقاط اللحظية. فالانطباعي لا تهمه الشجرة ذاتها، بل يهمه حركة الأوراق مع بداية الشعاع الأول للشمس. للوحة “اعتماد” تدخل في هذا السياق. فاللوحة لا تعكس المرأة بقدر ما تعكس حركة المرأة من أركان البيت أو القصر. وهذا ما جسدته حركة اليدين، وحركة القدم اليمنى، في حين اختفت القدم اليسرى بين تلافيف اللباس الباذخ المرتفع قليلا عن الأرض بسبب ارتفاع القدم اليسرى التي اختفت تحت تلافيف اللباس، خاصة أن الرسامة قصدت إخفاء هذا العنصر هدف التركيز على القدم اليمنى العارية المتحركة إلى الأمام. ومن الضروري الإشارة إلى أن طبيعة هذه الحركة، حركة الجسم عموما -تقوم على مفارقة منسجمة، إذا صح التعبير، وهي : القوة والرهافة. جسد متين، منفلت بصلابة الغزال ومتانة جسده، وهو في نفس الوقت، يتجه، بمرونة وليونة نحو الهدف.
لوحة اعتماد ، بالإضافة إلى ما سبق، ذات مرجعية مغربية، والرسامة مريم أمزيان من أهم الرسامات في مجال البحث عن خصوصية مغربية في الموضوع والتشكيل. ولعل هذا ما يفسر اللباس التقليدي المزدوج ر اعتماد ، والحزام الذهبي ارفع، والملامح المتوسطة الوجه الذي يحمل شيئا غير قليل من جنوب ضفة المتوسط، وشيئا غير قليل من شماله، فضلا عن الجيب المفتوح، بشكل مدروس، بحبيباته الحريرية والحمالة المختفية، سواء كانت من حرير أو من ذهب، عبر عنها الصدر الممتلئ باطمئنان.
6 – الإعلان و “الشريط المصور”
نقصد بالشريط المصور، المتوالية الحكائية القائمة على تتابع لقطات محددة تم رسمها لغاية معينة. وقبل أن يعرف المغرب البث التلفزي، كانت الصحافة المغربية ميدانا تجريبيا ، لهذا النوع من الإعلان سواء كان تجاريا أو ثقافيا بالمعنى العام.
تقدم لنا مجلة المشاهد المغربية، في أوائل الستينيات، [ 1961 ] نموذجا دالا في هذا المجال. انه نموذج الماء المعدني الفرنسي “بيريي” “Perrier” الذي كان ينافس مشروبا معدنيا فرنسيا آخر هو “فيشي” “Vichy” تقدم السلسلة الحكائية بشكل عمودي من الأعلى إلى الأسفل. وتبدأ هذه السلسلة، أو المتوالية الحكائية بوجبة دسمة يتحلق حولها ثلاثة أفراد يتقاربون في اللباس (الجلباب المغربي/ الطربوش التركي/ القامة الربعة… الخ ) كما أن الوجبة المقدمة صادرة عن “طجين” تقليدي، وصحون دائرية صغيرة لفتح الشهية… كل ذلك تحمله مائدة مغربية قصيرة القوائم، وقد تشبه هذه المائدة “طيفورا” معدنيا يحمل نقوشا تقوم على عنصر موحد مجسد في النجمة المغربية الموزعة على المحيط الدائري. بجانب الصحون الصغيرة وجدت قطعة خبز مثلثة الشكل، وأمام كل فرد من الأفراد الثلاثة، فضلا عن الصحون، الشوكات والكؤوس . تلك هي البداية التي تتكرر في اللقطة الثانية، ثم الثالثة. أما اللقطة الرابعة فتغيب عنها الوجبة الدسمة وأصحانها، وتحل محلها زجاجة “بيري” الصافية ,بمائها ولغتها الفرنسية الوحيدة !! وعلى اليسار تظهر “بيري” باللغتين : العربية والفرنسية، وما بينهما الجملة التالية: الماء الذي يهضم بسهولة. هكذا تعادل الوجبة اللذيذة بطعامها وأناسها وأدواتها زجاجة “بيري” الكل مقابل واحد، وكل اللقطات بالأسود والأبيض.
وأهم ما في الإعلان استناده إلى المتوالية الحكائية السانحة. وتقوم هذه المتوالية على عنصر التوقع أو الانتظارية المؤقتة. فالسارد لا يهدف إلى إخبارنا بتحلق الأفراد الثلاثة حول هذا الطعام الطيب، فذلك قد يكون من البديهيات بل إنه يهدف إلى إشراكنا في السؤال : وماذا بعد؟ فليس المقصود في المتوالية الطعام، نظرا لأن الإعلان التجاري يصرح باسم الطعام وفوائده، بل المقصود هر ما بعد الطعام – الطعام الدسم – أي مرحلة الوصول آلى الماء السحري الذي يشربه الكائن الإنساني فيذيب الصخر وكأنك كنت تكذب ! ولذلك لا يتردد أحد المتحلقين في استعمال صفة الخارق لهذا الماء[ انظر اللقطة الثالثة] .
تنطلق المتوالية الحكائية عن طريق توزع الحوار بالتساوي على الشخصيات الثلاث. في اللقطة الأولى تبدأ شخصية الوسط في مدح الأكل اللذيذ. وفي اللقطة الثانية ينطق رجل اليسار بكلام يجمع بين التقريظ المغلق بقسم محذوف ، والاستسلام لضغط الدسامة الثقيلة على البطن. أما في اللقطة الثالثة ، فنجد فيها رجل اليمين المعلن عن الماء الخارق للعادة ، “بيري + ي” الضامن لسهولة الهضم . هكذا تقوم المتوالية على الثلاثية التالية : توازن واطمئنان -> تخلخل التوازن (صعبة الهضم) -> الحل الخارق: ( الماء المعدني ).
إنها بنية الحكاية العادية التي لم تبق حبيسة المحكي، بل استفادت من السينما… وكلنا يذكر الشريط الافتتاحي المطور الذي كان يسبق عرض ” الفيلم ” الرئيسي [ شريط أفريك — فيلم — ماروك ] واستفادت هذه الحكاية من اللسان الدارج — ما عدا الجملة العربية الموجودة في اللقطة الأخيرة — المرن في الحوار. كما أن الشخصيات المقدمة ذات ملامح متقاربة، بل خرجت من جبة الشريط الإشهاري المشار إليه أعلاه بحكم التقارب الشديد في الملامح والوظيفة.
ما زال الصراع بين الأصالة والحداثة قائما. فالحداثة آخذة في التسلل التدريجي (الشوكات بجانب “الطجين”…)، كما أن هذه الحداثة قادرة على حل مشاكل الهضم، هضم الوجبات الأصيلة أو العتيقة. كل ما شئت فالحل هو “Perrier” والأكل أنواع لا تقتصر على الطعام المادي، بل، أيضا الطعام المعنوي، من مسلكيات وأفكار…
7 – الحداثة و “الدولة الوطنية”
كانت حداثة الستينات منطلقة من مصدر أساسي يقوم على مفهوم التخطيط الذي بلغ أوجه في الدولة الأوروبية الديموقراطية أو الاشتراكية.
ومن ثم، كان الإعلان عن بضائع وصناعات هذه الدول، يقوم على الرؤية المستقبلية أكثر من قيامه على الاستهلاك اللحظي أو النفعي المؤقت.
في الإعلان نجد “شمعة إيزولاتور” لمحرك السيارات، تلعب هذا الدور بحكم انتمائها إلى دولة “ألمانيا الديمقراطية” 1 كيف تحقق هذه الشموع الرؤية المستقبلية ؟
رسما :
( أ)- الشمعة في أعلى الصورة – على اليسار – مثل رصاصة أو قذيفة مصغرة تشع بصلابة الحديد، ولمعان زواياه، ومتانة قطعه المركبة بعناية.
(ب)- السيارة التي وصل فيها مؤشر عداد السرعة إلى المائة بفضل شمعة “ISOLATOR”.
(ج) — وهي سيارة ضخمة تشبه السيارات الأمريكية الشهيرة مثل “فورد و بويك او الشيفرولي”.
(د) — عداد السرعة أشبه بقرص الشمس في نصفه العلوي الذي يوحي بالأفق الذي تركته السيارة وراءها ، كناية عن رحلة طويلة قد تكون في بدايتها او نهايتها.
كتابة :
كل إعلان يتوسل بالكتابة أو الخط المحمل بالدلالات المختلفة.
( أ) — الإلحاح على الارتباط بالعصر ، عصر الصناعة والقوة والتحولات الصناعية الكبرى.
(ب) — صناعة لا تعرف الشلل أو الخلل، صناعة تستوحي قيم الطبقة العاملة التي غيرت مسرح الأحداث في هذه الدول. وجملة “دائما مستعدة للعمل” تحيل على هذه المرجعية بحقلها المتعلق بالأمن والإتقان والديمومة ٠
(ج) — شمعة “إيزولاتور” ذات علامة مميزة ( النقطة الخضراء ) تبعدها عن الصناعات المغشوشة ، وللقارئ حق التأويل، تأويل المسكوت عنه.
(د) — استخدام ثنائية المصدر والوكيل، الخط العربي والخط الفرنسي، مع الإلحاح على علامة المؤسسة الألمانية المختصة بالاستيراد والتصدير المطعمة بثنائية أخري، ثنائية الرقم و الرمز، ثنائية الدولة والسوق.
8 – أسلمة الحداثة
لعل صدام المغاربة بالحاثة الأوروبية كان وراء إصدار العديد من المواقف التي توزعت بين الرفض المطلق والقبول المشروط بمصلحة الجماعة. في القرن 19 -على سبيل المثال— كان الرحالة المغربي متوزعا بين هذين الموقفين. ففي الوقت الذي يرفض محمد بن جعفر الكتاني ركوب مراكب الكفار المتوجهة إلى الحج، ينخرط الرحالة “الغيغائي” -ق9ا – في هذه الحداثة مستعملا المركب البخاري و التلغراف ما دامت الآلة تحقق الفائدة واليسر للجماعة المسلمة .
كان ذلك في القرن 19 ، غير أن الإعلان عن مشروب “كوكا كولا” ينتسب، وهو قبل بذلك بكثير، إلى الخمسينيات من القرن الماضي، وهو -من ناحية أخرى- صادر عن مجلة ثقافية، كان يطمح أصحابها إلى جعلها مجلة فكرية وإبداعية تضاهي رسالة أحمد حسن الزيات.
الإعلان يقوم على مفهومين متعارضين: مفهوم الحلال ومفهوم الحرام. وبالإضافة إلى صورة الزجاجة — زجاجة الكوكا كولا- المملوءة بالسائل الأسود، والحاملة للاسم والنوع [ الماركة] والمواد النباتية الموظفة في صناعة هذا السائل، أقول بالإضافة إلى هذه المعطيات المكتوبة بالبياض المتعارض — هدف ترسيخ الإعلان — مع السواد، توجد الجملة المحورية المكتوبة باللغة العربية في الزاوية العليا على يسار الإعلان، وقد لا تؤدي الدائرة السفلية -على اليسار دائما — الحاملة للاسم المشروب باللغتين الدور المركزي الذي تؤديه الجملة العربية العليا. نعم، إن هذه الدائرة الشبيهة بسدادة الزجاجة تسهم في ترسيخ الاسم في الذاكرة، لكن الجملة العربية العليا لا تترك مجالا لتردد المستهلك أو المتلقي الذي سيتحول بالرغم عنه إلى مستهلك لهذا المشروب للأسباب التالية :
أ- إنها جملة مفيدة تقوم على صيغة الأمر [ اشرب كوكا كولا ] المؤدية إلى التنفيذ.
ب – والجملة الثانية اسمية تقوم مقام الإجابة عن سؤال ضمني أو صامت. إن سؤال المتلقي الذي يتساءل : لماذا سأشرب كوكا ولا أشرب مشروبا آخر ؟! الجملة، إذن، هي جواب مريح للسائل على الشكل التالي : إنه : [ المشروب الحلال ].
ج- الإجابة الأخيرة هي استبعاد لكل التساؤلات المغرضة حسب مروجي الإعلان. وهذا المشروب القادم من مصانع الآخر [الأجنبي] الذي ما زال يحتل المكان، هو مشروب حلال ولا علاقة له بمشروب الأجنبي المنضوي تحت عنوان المحرمات، وهي كثيرة آنذاك، خاصة أن المستهدف هو الشارب المغربي المسلم .
د – كيف يمكن التعامل مع الآخر البعيد عن الحرام بشكل أو بآخر ؟! الجواب هو أن تتم أسلمة ما هو مفيد ، أو على الأقل، أسلمة ما لا يلحق الضرر بالإنسان والمجتمع. فالحلال بين والحرام بين. مقاطعة الأجنبي خضعت -وما تزال— لمفهوم الحلال والحرام بصيغ متمردة .
هوامش:
-1مجلة المغرب لصاحبها، محمد الصالح ميسة ٠ أكتوبر ٠ 1934 .
- 2 مجلة الوصلات الإشهارية السابقة على عرض الشريط والشهيرة بالعنوان الإشهاري الشهير : (افريك فيلم ماروك) ) الذي ينزل على شكل ستارة مسرحية بواسطة دمية أليفة دائمة الابتسام. 1 – رسالة المغرب ع،143،س،11 .1952 .
1 -هامش : وهذه الصفحة المخلوعة على الحوامض المغربية تعكس المنظور الاقتصادي السائد أيام الحماية، والممتد إلى سنوات الاستقلال التي تم فيها توجيه الاقتصاد – فلاحيا – نحو التصدير، واستبدال معمر أجنبي بمعمر وطني انظر الجملة الواردة في ١لإعلان عن مشروب “كروش” “CRUSH” [ الجميع يشربون كروش “صودا” عصير الليمون المغربي ]. الأثير٠ س، 3، 1952 .
أيضا [ اشربوا كروش عصير البرتقال المغربي ] ٠ رسالة المغرب٠ ع، 138، س 11 ٠ 1952 ٠ 1–2 زيت لوسيور في علاقته بالأسرة من حيث الصحة والضمان والأكل الجيد. المشاهد .ع، -2وهي شخصيات أجنبية يتم تعريبها – لغة ولهجة ، محليا، مع الاكتفاء بملامحها وملابسها وحركتها المؤكدة على المنظور الاستلابي لمروجي هذا الإعلان وما يشابهه.
3 – مجلة “الاطلس” ع،٠11 1963 ٠
4— مجلة المغرب، ع،٠139 س، 11 ٠ 1952
5- تحتاج تجربة رسالة المغرب إلى بحث خاص في مجال الثقافة العربية، واهتمامها بالتشكيل المغربي في مرحلة مبكرة يعود إلى منظورها المتميز للثقافة آنذاك. انظر عدد يونيه 1952 و – تجربة الفنان أحمد إدريس.
6 – مجلة١لمشاهد ٠ ع 63 ٠ نونبر ٠ 1961
7 — مجلة الأطلس، ع 10 , س 1 ، 15 يوليوز 1963
1- انظر أيضا جريدة الأهداف المعلقة عن المنتوج الاشتراكي بألمانيا الديموقراطي. تقول الجريدة : “”
الجمهورية الديموقراطية الألمانية دولة ” ديناميكية. قوة صناعية في قلب أوروبا. الأهداف. ع، 11 ٠ س٠ 1 ٠ 1964 ٠
8 — ع، 134 نونبر