ولدت صامتا ، استمع أبي إلى شروح الفقيه المعقدة عن مواليد هذا الزمن المشؤوم. مولود لا يعلن عن نفسه بصرخة أو بسمة أو ضحكة ، هو من الضالين . ذلك أمر لا ريب فيه ، وحينما انتهى الفقيه من قراءة أوراده ، امتلأ المكان بروائح دخان وهمهمات غريبة ، ثم اندفع بوقفة هوجاء أوصلته الى فناء الدار المترب.. أحسست بنظرات أبي النارية تلسع قفاي ذات الثنايا الصغيرة. زحف أبي على ركبتيه نحو أمي، ثم التقطني من قدمي، و ضربني على مؤخرتي العارية بكفه الغليظة – وصراخي لا يعلمه إلا الله-ضربات متتابعة حتى نطقت : سأكتفي بأكلة واحدة ، وبإمكانك أن تفطمني قبل الأوان ، وسأكبر في قماط من قميصك القديم .. أما المهد فهو زائد عن الحاجة ، وسأحترم قيلولتك الطويلة، وسأظل صامتا..
وجدت نفسي في حضن أمي، هزتني برفق، ناغتني بقطع الحلوى وروائح السمن ، وعبير الفطائر حتى غالبني النعاس.. وحينما استيقظت من نومي ، أحسست بدفء شريط جلدي أسود بحضن معصمي ، قالت أمي : نجحت في الامتحان. ساعة جميلة أليس كذلك ؟
طوال اليوم ، أخذت اذرع الزقاق جيئة وذهابا، ويدي اليسرى على خاصرتي ، كنت عاريا إلا من ساعة تلمع أرقامهما الذهبية تحت أشعة الشمس ، كانت كل ملابسي! طوال النهار ويدي اليسرى لا تغادر خاصرتي ، وحينما اختفت الشمس وراء الأفق رفض العقربان التزحزح من مكانهما ، وظل كل منهما يتوسد الآخر في الثانية عشرة. هززتها بعنف ، وأدرت لولبها المعدني يمينا وشمالا، ثم ألصقتها بأذني اليمنى دون أن تحرك ساكنا. لم تكن ساعة حقيقية ، مزقتها بأظافري ورفستها بقدمي ، وانتحيت ركنا تابعت فيه قضمها بأسناني قطعة قطعة.
دخل أبي وصرخ في أمي:
— هل أكل البغل ؟!
نكست أمي رأسها ، وألقمتني ثديها ثم سحبته بسرعة بعد أن رفع أبي يده اليمنى. لعقت فمي بلساني ، وأسرعت إلى مص إبهامي خوفا من أن يدخلوا في فمي حلمة “البلاستيك “.
لم يغادر أبي المنزل طوال اليوم ، كان يخاطب نفسه بصوت مسموع ، ويعد أشياء وهمية بأصابع يده ، وحينما أعياه الكلام جذبني بعنف من حضن أمي ، ٠ثم قرصني بعنف أيضا ونظر إلي طويلا ، واخبرا دس في كفي قطعة نقدية صغيرة مخرومة الوسط ، صرخت بصمت ثم انفلتت خارجا. تقدمت من بائع الحلوى المعجون بالسكر و “الجلجلان “—- نقود من أيام سيدنا سليمان ؟!
رمى بالقطعة النقدية بعيدا، ثم لعنني ولعن أبي بصمت ثم تراجعت إلى الوراء وقذفته بها ، تلقفها بكفه ، ونادى على بضاعته وهو يبعد الأطفال المتحلقين حول ” صينية” الحلوى ، مر سائل أعمى يقوده طفل مبصر. اقترب الأعمى من ” صينية ” الحلوى ، دس البائع القطعة النقدية في كفه الممدودة ثم فرك يديه وابتسم..
في الصباح وضعت أمي في جرابي كسرة خبز وقطعة سكر ودفتر ، كان علي أن أقطع مسافة طويلة لأصل مدرسة المدينة ، في الطريق ، سخر من قميصي الذي يصل إلى الركبتين طائر مر مسرعا ، فوق رأسي ، أما الريح فقد عاكستني طوال الطريق حينما رفعت ثوبي إلى أعلى عند كل خطوة أخطوها ، خجلت من نفسي لأن مؤخرتي ما زالت تحمل آثار أصابع أبي الغليظة، نظرت إلى سحابة فلوت رأسها غاضبة متخذة شكل تمساح ضخم، مما دفعني إلى الإسراع في مشتيي التي تحولت إلى عدو خفيف.. المدينة…. الضوء الأحمر، شرطي المرور يتوسط الطريق بثبات ، أدخل أصابغ يده اليمنى في اليسرى لإصلاح القفازين، أجال بصره في سيارات متوثبة ودراجات هوائية خجولة ودراجات نارية ما زالت تنتفض غيظا برسم القفاز نصف دائرة بحركة لينة. يذوب الخجل وسط الغيظ المزمجر ويتزوبع الكل في دخان أزرق. يلتفت الشرطي إلى الخلف، أتداخل في قميصي الطويل.. يسألني عن أبي وأمي وسني وعنواني. يركلني بمقدمة حذائه ويلعن أبي وأمي وسني وعنواني… يجذب سترته الكاكية إلى أسفل يباعد ما بين ساقيه ويتنهد بارتياح. نفضت الغبار عن قميصي الطويل وأديت التحية بيدي معاثم مرقت كالسهم من بوابة المدرسة في الفصل حدثنا المعلم طويلا عن البترول الذي اخترعه العرب قبل أوروبا ، والبترول وقود يحرق داخل الآلة ، والإحراق أنواع عدة: إحراق قلعة، وردة ، كتاب ، طفل.. دق جرس الخروج ، تحلق الأطفال في ساحة المدرسة حول صبية كانت ترقص على تصفيقاتهم ، كفوا عن التصفيق دفعة واحدة ، ثم تناوبت ايديهم على نزع ملابسها قطعة قطعة، أخيرا رفعوها بصخب ثم قذفوا بها خلف سور المدرسة ، أمسكت ذيل ثوبي بمقدمة أسناني، وعدوت بأقصى سرعتي.. في الطريق المترب شيعني الطائر بصفير ساخر ، وأمعنت الريح في معاكستي أما السحابة فقد اربد وجهها عندما نظرت إلي السماء ، ولم يتورع شرطي المرور عن صفعي مرة ثانية بعد أن مرقت مسرعا أمام لباسه الكاكي.. وأثناء عدوي كنت مصرا على أني أظل صامتا.
عبد الرحيم مودن