من هذا الباب يدخل عبد الرحيم مودن إلى قلبي.. !
كأني اليوم لم أقفز عن الأمس بدقيقة واحدة، لأراني أقف صُحبة أديبنا المغربي الكبير عبد الرحيم مؤذن رحمه الله، على قارعة النص أو رصيفه المبثوث في غالب الإبداع بالكلمات، مع بعض البياض الذي ليس بالضرورة حَُفرًا كالتي في شوارعنا ولا تكتنف إلا بلاغة السقوط؛ أقف بنفسي الأمَّارة بأحابيل الانزياح على قارعة النص الذي يكتبه عبد الرحيم مؤذن، منهوبا بكل المسافات التي بين الحياة والموت ولا أستطيع قياسا لمجازاتها ولو بأجنحة الملائكة، فقط أضع نفسي بين النفوس، لنتعلم جميعا كيف نُربي الشوق في ذواتنا، على نار الانتظار الهادئة، تَرَقُّباً لوليمة التذوق الكبير لنص إبداعي جديد نقرأه نَهَماً دون أن يعقبه مسح اليدين؛ فهل يدخل عبد الرحيم مؤذن اليوم كما الأمسُ من هذا الباب إلى مكتبي، هو الذي دخل سَلَفاً إلى قلبي..!
أجزم أن فقيدنا العاشق للرحلة بكل ما أوتي من أَرْجُلٍ رمزية، لم يمض في ذهابه وإيابه السَّردي، بعيدا عن جغرافيا الشعر؛ فكتب القصة قصيرة ليس لينتهي سريعا من صداع في الرأس أو يصل لنقطة في آخر السطر، بل كأنما يستعجل المسافات لبلوغ حياة أجمل في غير وجودنا؛ لذلك ودعنا بعد أن بَسَطَ وثيراً لمن يملك في جهازه القرائي، رئةً بِنَفَسٍ طويل، ترسانةً ذات عيار ثقيل، من الدراسات في النص الرِّحْلي، بدأت سَفَرَها الزاجل بأطروحته لنيل الدكتوراه عام 1996 حول «مستويات السرد في الرحلة المغربية خلال القرن التاسع عشر»، ليمتد السفر تحليلا وتحقيقا، ملء شِغاف سي عبد الرحيم مؤذن، فيطلق عام 1997، دراسة تعتبر رائدة، تحمل اسم «أدبية الرحلة»، أردفها عام 2006 بـ«الرحلة في الأدب المغربي»، لتلوح في الأفق الذي نَسْتَحِثُّ الخُطى إليه دائما، بما ننفخه في أفئدة أقلامنا من أرواح عاشقة للإبداع؛ تلوح في الأفق، رغم أنه ليس في غالب سفرنا الثقافي، سوى بضع سحابات أو بالأحرى حتى لا نزيِّف الطبيعة، ليس هذا الأفقُ سوى فراغٍ نضطر للوجود فيه حتى ننقذه من توصيف العدم وتستمر الحياة؛ أجل تلوح في أفق الرحلة جائزة تحمل اسم أكبر رحَّالة مغربي؛ هي جائزة ابن بطوطة للأدب الجغرافي التي يمنحها «المركز العربي للأدب الجغرافي» ومقره في أبي ظبي ولندن؛ وآلت هذه الجائزة، إلا أن تجعل أديبنا المغربي الكبير عبد الرحيم مؤذن رحمه الله، أول الظافرين بشرفها الذي لا تُقدر رمزيته من حيث التقدير الإنساني للتجربة الأدبية لهذا الرجل، بثمن ورقي أو معدني؛ وقد استحق هذا التتويج، عن تحقيقه لمخطوط «الرحلة التتويجية إلى الديار الإنجليزية للرحالة المغربي حسن بن محمد الغسال».
إذا أردتم أن أصدقكم القلب، وأنا أخُطُّ بأوردتي هذه الشهادة، لست أنْشُد تدبيج دراسة تحمل عنوانا أطروحيا غليظا حول علاقة عبد الرحيم مؤذن رحمه الله، بأدب الرحلة، إنما أردت باستحضاري لهذا الفرع الأدبي في شجرة الاهتمامات الموسوعية لفقيدنا، أن أُعَبِّد لحديثي طريقا إلى عبد الرحيم مؤذن الإنسان، من دون إسمنت أو تحليل مُسَلَّح؛ لأقول ومن منطلق إشرافي على ملحق «العلم الثقافي»، لا أحسب عبد الرحيم مؤذن يستنكف عن الكتابة إلا حين يغلبه النوم ليلا، إذ لا أكاد أنشر له دراسة أو قصة أو قراءة في أحد الكُتب، حتى يُباغتني بعد أسبوع أو أسبوعين بعمل آخر، فلا أجد مناصاًعن النشر، دون خشية من احتراق الاسم الذي لا يزداد إلا ألقاً، وإلا سيسرد سي عبد الرحيم مؤذن على مسامعي، عبر الهاتف أو حاضرا في ضيافتي بالمكتب، كرونولوجيا تاريخية معهودة، تُذكرني بعلاقته التي كانت ولا تزال مع ملحق «العلم الثقافي» منذ السبعينيات قبل أن أولد أو بعد أن قَطَرَ بي السقف بقليل؛ فلا أملك إلا أن أنهض وأُقَبِّل رأسه فيطيب الخاطر وتصفو النفس الأمَّارة بوسواسٍ من كل كدَر؛ هكذا كان يمارس عبد الرحيم مؤذن رحلته في الحياة حتى وهو يلاحق كتاباته التي صارت بالأنترنيت تسبقه إلى علبتي الإلكترونية، لتجد سطورُها سُبُلَ نشر أنجع تصل إلى الناس؛ وهو موقن أنه حتى إذا مات الكاتب فإن الكتابة تبقى ملء الأبد، بين ظهراني الأجيال لا تموت؛ وهذه ربما أبلغ رحلةٍ نَحْتَرِثُ سفرها الرمزي في الحياة، دون أن ندرك أننا مهما كنا أبطالا ملحميين أو هوميريين، يبقى دائما في أقلامنا كَعْبُ أَخِيلْ الذي بقدر ما تقلتنا كبواته بيولوجيا، فإنها تُخلدنا في الأدب الذي ليس سوى أسطورتِنا الكبرى في الحياة.. !
(افتتاحية عدد الخميس 19 فبراير 2015 لملحق “العلم الثقافي”، و هي نص الشهادة التي ألقيتها في لقاء احتفائي بذاكرة الأديب الراحل عبد الرحيم مؤذن صباح 15 فبراير 2015 بقاعة حيفا، في الدورة (21) للمعرض الدولي للكتاب و النشر بالدار البيضاء، بمشاركة الأدباء: إدريس الصغير و شعيب حليفي و يحيى عمارة.)