كأوراق الخريف، هاهم أفْذاذُنا يسقطون تباعا، الواحد تلوَ الآخر، وما هم في فصل الخريف!..لقد هَدَّهُم المرض اللعين، وأذوى زُهورَ أعْمارِهم، بعد أن أنعشوا الوطنَ بثمرات عقولهم وقلوبهم..
يُخْطئ من يدَّعي أنّ هؤلاء عاشوا في الظل، ورحلوا في غفلة منا، بالرغم من هَجْمة التهريج التي حَجَبتْ عنا كلَّ جَميلٍ، وأغرقتنا في بحر البشاعة والقبح!..لقد كانوا يعيشون بيننا، ونشعر بوجودهم، ولولاهم لَمَا كُنا، ولَمَا كان هذا الجيش من الأدباء والْمُثقفين والفنانين والصِّحافيين والسياسيين، الذين يملأون الدنيا!..فمن أين جاؤوا إنْ لَمْ يَكُنْ أْنْجَبَهُمُ الراحلون؟! كنتُ أمُرُّ كلَّ صباحٍ بِالمَقهى، فألْمَحُه جالسا في رُكْن قصي، وحيدا يرتشف فِنجان القهوة حينا، يخط شيئا في أوراقه حينا آخر!..سنواتٍ، قضيتها مُدْمِنا على رُؤْيته في تلك الزاوية، حتى إنني كنتُ، إذا رأيتُ مكانه خاليا، أحس بشيء ينقصني، قبل أن ينقص الْمَقهى!..ولَمَّا قرأتُ بعضا مِمَّا نشرته له الْجرائد والمجلات، ثم لَمْلَمَها في كتب، أدركتُ أنَّ الكتابة ليستْ سهلة، ولا بإمكان أيٍّ كانَ أن يخوض في بحرها!..إنّها معاناة يومية!..إنّها مَخاض بصري وعقلي ونفسي!..إنّها آلام وأوجاع، لا يُكابِدُها إلا الكاتب الْحَقيقي، ومن يستسهلها فعليه أن يضع القلم جانبا، ويمزق أوراقه، ثم يقدم استقالته من الحياة الحقيقية..يومَها، اقتنعْتُ بأن الراحل عبد الرحيم مودن، كان مِمَّنْ أصابه قلق الإبداع، فأمضى حياته، الستة والستين عاما، لاهثا وراء طائر الْحُلم، من قصة القارئ الكبير إلى قصة القارئ الصغير، من رحلة الرجل إلى رحلة الطفل…إلى السيرة الغيرية، والدراسة النقدية، والمقال الاجتماعي..إلى السخرية والنقد اللاذع للعالم.
لعل السر يكمُن في أن ذاته لم تُحقق ذلك التوافق النفسي والعقلي مع الآخر، ما عكسته أعْماله الأدبية، إنْ على مستوى الموضوعة، وإنْ على مستوى اللغة والأسلوب. لأن هذا القلق، يتشكل من طفولة الكاتب المبدع وترَسُّباتِها وتراكُماتِها، وانفعالاته وإحساساته بها، وتصوراته وخيالاته لها، وتفاعلاته مع الحياة والواقع، إيجابا وسلبا..! خلف الراحل عبد الرحيم مودن تراثا أدبيا هائلا، تَجَلى في أدبيات الرحلة، وهي الْحُدود التي لَمْ يجْرُؤ على الاقتراب منها إلا القليل من كتابنا المغاربة. وكذلك في أدبيات الطفل، حين أهدى لفِلْذاتِ أكْبادِنا التي تَمْشي على الأرض سيرا لشخصيات أدبية مغربية وعربية، وكانت غايته أنْ يَهْمِس في آذانِ صِغارنا: لا تظنوا أنّ أرضنا العربية عقيمة، تعجز عن أن تُنْجِب رحالة وأدباء!..هاكُمْ بعضا مِنْ هؤلاء، الذين أضاؤوا بلدهم والعالم كله بأدبهم وعلمهم! كما ترك لنا أُضْموماتٍ قصصية ومسرحية، ترسم للكتاب رؤيته الفنية الحديثة للكتابة الإبداعية، وهي سِمَة لاتَخُصُّ الْحياةُ بِها غيرَ مَنْ أدركته حِرْفةُ الأدب، وحُرْقة البحث والسؤال..! نحن عابرون من العدم إلى العدم، عبر جسر الحياة، وفيه التقينا برجال مازالوا قابعين في كياننا. وكم من لازالوا يقطعون معنا الجسر، لكنهم غائبون عنا، لا نُعَبِّرُهُم حتى بِلَمْحَة البصر، لأنهم يعيشون عالةً على عصرهم…! لقد كذَب الذين قالوا إنه رحل عن دُنْيانا، ولن يرجع!..ففي أمثالنا المغربية: من ترك عَقِبا، لم يمُتْ!..وكاتبنا عبد الرحيم مودن، لم يمتْ، فعلا، وسيظل خالدا، لأنه ترك أعقابا أدبية، تشكِّل علامة مضيئة في تاريخنا، تذكرنا بشخصية هذا الأديب الألْمَعي…
العربي بنجلون