إن أ.د.عبد الرحيم مؤذن، شخصية إنسانية وثقافية وإبداعية مميزة. خبر تجارب الحياة بعمق، فصقلت شخصيته بالحزم والالتزام والتعاطي الصارم مع إحداثياتها. وعرف بنهمه للقراءة والاطلاع والمتابعة، مما أغنى رصيده المعرفي بشكل موسوعي. وخاض عالم الكتابة القصصية مبكرا، فاغتنت تجربته الإبداعية بالتعهد والتجريب والتنظير. بل وامتد نشاطه الإبداعي إلى آجناس وأنواع أدبية غير القصة القصيرة، من مسرح وقصص أطفال ورحلة، كما توجهت كتاباته النقدية نحو قضايا القصة القصيرة والرواية والرحلة وغيرها. وبذلك تمكن من إنجاز تراكم أدبي مهم، قلما توفر لغيره من أدباء جيله. مما ساهم في إكساب شخصيته الأدبية وضعا اعتباريا رمزيا مميزا، داخل الساحة الإبداعية والنقدية الوطنية والعربية.
ونلتقي في هذا الكتاب، مع كل تلك الصفات المميزة لهذه الشخصية الفذة، رغم أن موضوعه يتمحور حول السجلات المشاهداتية رحليا، عن كل من مصر وهولاندا وباريس والصين. وربما بسبب هذا اختيرت صيغة (أرخبيل الذاكرة) عنوانا دالا للكتاب.
إن الانطباع الأساس، الذي يخرج به قارئ هذه الرحلات الأربع، ينبعث من كون الكتاب لا يتوقف عند تسجيل مشاهدات المؤلف بحيادية باردة، خلال رحلاته بين شعوب متباعدة مختلفة، بل إنه يجمع بين دفتيه أرخبيلا من الذواكر الرحلية والأدبية والفنية والجمالية والحضارية والثقافية والحياتية. مؤكدا بهذا، أن ذاكرة المؤلف وإن تكن في الكتاب ذاكرة شخصية، قطعت نهر الحياة بكل طموح وعنفوان وتشبع، لكنها أضحت بغزارة معارفها وقدرتها على التحليل والتأويل والاستنتاج والنقد، مرجعية ثقافية عامة، ومن هنا قيمة الكتاب. فهو من وجهة نظرنا على الأقل، ليس سياحة عابرة لهذا البلد أو ذاك في الشرق والغرب، وهذه المدينة أو تلك من عواصم الدنيا، وتسجيل المشاهدات الأفقية السطحية وكفى، وإنما هو تأمل عمودي عميق ودقيق في حياة وحركية الناس، وأعراف المجتمعات وتقاليدها وطقوسها، واستنطاق الحفريات والآثار بما تذخره من جمال ودلالات وعبر تاريخية، والوقوف بالوصف والإعجاب والتأويل أمام المحافل الثقافية، من متاحف منظمة ومكتبات عامرة ومظاهر فنية مدهشة من رسم وموسيفى، وتتبع لمنجزات التحضر والرقي، من سلطة الإعلام، وحركية المواصلات يتقدمها الميترو، وروعة الحدائق، ورقي المقاهي والمطاعم، وبهجة بريق الواجهات التجارية إلخ.. من غير أن تغيب الذات الناقدة والمقارنة بين ما لدى الآخر وما لدينا، مع قدر عال من السخرية المريرة المعهودة في كتابات الأستاذ مؤدن، مكتشفا بهذه المواجهة غير المتوازنة فقر الوطن الأب من خلال غنى غيره من الأوطان.
ولعل مفتاح الولوج إلى عالم الكتاب من زاوية النظر تلك، يكمن في العبارة المفصلية، الواردة في صفحة 84: ((الزمن زمنان، والمرتحل يحمل، عادة زمنه الخاص، وهو يدخل زمن الآخر))(2). فالمؤلف وجه بوصلة رحلته نحو مصر بتصور (مصر التي في خاطري …)، وقد تبلور عنها أثناء زمن الدراسة وقراءة الإبداع المصري ومشاهدة الأفلام المصرية، لهذا جعل يفسر بعض المواقف والمشاهد من منطلق مرجعياته المقروئية والإعلامية والسينمائية. ويتأكد هذا بمثل قوله لحظة الاستنطاق في مطار القاهرة، إبان أحداث 25 يناير 2011: ((الآن فهمت حكمة “أنيس زكي” ـ بطل ثرثرة فوق النيل ـ في الإبقاء على قلمه فارغا من الحبر، وهو يسجل الصادر والوارد.. لا فرق بين الاثنين.. والكلام ـ كما يقول أحمد رجب ـ نوعان = كلام فارغ وكلام مليان فراغ.. !!)).(3)
وارتبطت معرفته بهولاندا قبلا في طفولته، بحليب وصورة البقرة الهولاندية الشهيرة، وبالطواحين الهوائية العتيقة. كما أن زائر باريس مثله، لا يكتفي بباريس الحالية، بل يحمل معه زمنه الخاص، هو زمن باريس الذاكرة والتاريخ. وأما الصين، فصورتها القبلية، مستقاة من الشاي بكل مشمولاته، وسور الصين العظيم، وتنينها الأسطوري، وخصوصا من الأثواب الصينية التي خبرها المؤلف بمتجر والده، في ستينيات القرن العشرين.
وبهذا الفهم، لا تكون هذه الرحلات نحو الشرق والغرب، مجرد رحلات عادية انخرط فيها رحالة، وسجل انطباعاته الشخصية، وانتهى الأمر. بل إنها فيض معرفي وإبداع أدبي، فاضت من خلالهما مخزونات ذاكرة الرحالة مؤدن، بما تملكه من معرفة واسعة، وذوق رفيع، وإحساس راق مفتون بالجمال. مما استحصله بتكوينه الذاتي المثابر طيلة حياته. فهو إذ يقف أمام المشاهد المضيئة في حضارات الأخرين، يغوص في مستوراتها كاشفا رموزها، ومثمنا روعتها، في مقارنات نقدية مريرة مع ما في واقع بلده، حيث يكتشف أسوأ ما عندنا بكشف أجمل ما عند الآخر.
فحين نتوقف في الكتاب عند المشاهد الفنية، نجد المؤلف تستوقفه اللمسات الجمالية الحاضرة هنا وهناك بالبيئة الهولندية، والمتخذة شكل ممارسة يومية بأساليب مختلفة في البيئة الباريسية. فيستدعي ثقافته التشكيلية والموسيقية، كما يبدو من حديثه عن فان جوخ ورامبرانت الهولنديين، ورونوار وموني الفرنسيين، والمدرستين الواقعية والانطباعية في الرسم، والحركة التشكيلية في (مونبارناس ومونمارتر). وينخرط في تحليل وتذوق الآثار الفنية، بصورة توحي لنا وكأننا أمام درس نقدي عميق البصيرة، في فني الرسم والموسيقى الكلاسيكيين، ولسنا بصدد حقل آخر هو حقل الرحلة بمشاهداتها الغريبة والطريفة.
وهكذا نلفيه في شأن فن الرسم مثلا، يقف متعجبا من ظاهرة حضور هذا الفن في الحياة اليومية الهولندية، مع مكانة مائزة ل “فان جوخ” و”رامبرانت” في الواقع الحضاري العام بهذه الدولة. وهنا تكون الفرصة مواتية لاستفاضة الذاكرة باستحضار تاريخ فن الرسم في أوروبا، والمقارنة بين واقع هذا الفن في إيطاليا وهولندا، وتمييز الفلاماني منه بما عرف عنه من خصائص ((انكب الرسامون الفلامانيون على البحث في علاقات الديني (المقدس) بالإنساني، الخطي باللوني… ولعل ذلك هو الذي منح الرسم الفلاماني واقعيته المميزة، مرهفا ـ الفن الفلاماني ـ السمع لما تحويه المادة من عمق روحي رابط بين المدنس (الأرضي) والمقدس. وستبلغ هذه الواقعية أوجها لدى “فان جوخ” ـ خلال القرن 19 . ومن خصائص هذه الواقعية أيضا، تميزها بالبساطة ـ والهولندي يفكر بصوت مرتفع ـ التي لا تعني التسطيح، أو الاستنساخ الحرفي للمرئيات، بل تعنى بالارتباط باليومي في دلالاته القريبة ـ الصراع من أجل العيش ـ وفي دلالاته البعيدة مجسدة في الحفاظ على قيم العمل والمتعة والجمال))(3).
أما بالنسبة للموسيقى، فلا يفارقه هنا أيضا الإعجاب ونزعة التحليل والتذوق. والمثال المستشهد به هنا، يتعلق بشدهه بالسمفونية التاسعة لبتهوفن، حين استدعت في ذهنه مدينة “ماستريخت” الهولندية، صورة اليوم الذي أعلنت فيه أوروبا وحدتها التاريخية بداية التسعينيات، واتخذت الجزء الأخير من الحركة الرابعة في السمفونية بكوراله المهيب شعارا لها، فتحفزت النزعة التحليلية التذوقية لديه، مسجلا إحساسه العميق بها، وكاشفا عن بعض خفايا الآلات الوترية: ((السمفونية التاسعة لـ “بتهوفن”، في أوجها الإيقاعي، خاصة في المقطع المعزوف بآلات ” الكونترباس” المثيرة للرهبة والشجن في آن واحد الرهبة تنبعث من حشرجة “الكونترباس” وما تحيل عليه من معاناة خاصة. فـ “الكونتبراس” آلة اللحظات الحاسمة، والتي تقتضي تأدية الثمن بطريقة أو أخرى.
أما الشجن، فـ “الكونترباس” آلة مونوغرافية بامتياز، بخلاف الإحساس الذي يمنحه الكمان العادي، إحساس الاستعداد للحوار بين طرفين. وفي اللحظة التي تتوقف فيه آلة “الكونترباس” عن العزف، يندفع “الكورس” المزدوج ـ نساء ورجالا ـ لترديد مقاطع “شيللر” الشهيرة عن عظمة الإنسان وقوته.))(4)
وبنفس درجة هذا المستوى الفني المرهف، تطل شخصية الأستاذ مؤدن المشبعة بالمعرفة، حين يواجه لحظات ثقافية مؤسساتية أو مرحلية أو زيارتية… فيسترفد زمن الذاكرة، بما تنوء به من موفور المعارف والاطلاع والتجارب الفكرية والإبداعية. مما يفيض باستدعاء اللحظات التاريخية الفارقة، وبرصيد مهم من الأقوال المأثورة والأمثال، وباستشهادات دالة من الرحالة المغاربة السابقين. والنموذج الذي نستحج به هنا، مناسبته زيارة المؤلف لمدينة ثقافية هولندية، هي مدينة المعرفة والمكتبات العامرة “ليدن”. فهو يستنطق ذاكرته، منوها بالقيمة العلمية الموثوقة لذخائر مطبعة ليدن، في غير قليل من الحنين لفترة الدراسة الجامعية الرائعة: ((حظي اسم “ليدن” بـ “وضع اعتباري”، في بداية دراستنا الجامعية بكلية الآداب، شعبة اللغة العربية، معظم المصادر العربية التراثية، كانت ممهورة بمطبعة “ليدن”. وفي تلك الفترة المبكرة من بداية تلمسنا لما وراء الصورة، توزع اسم “ليدن” ـ لغة بين الألمانية والهلندية، بين الغرب المتجبر والغرب العالم.. كانت طبعة “ليدن” كافية لاقتناء مطبوع لا جدال في قيمته.. حروف المصادر النقدية، ودواوين فحول الشعراء، رشيقة أشبه بالكتابة المسمارية، تفوح منها رائحة الأديرة، وورقها الصقيل يأخذك برفق، نحو مضارب القبيلة التي غبت عنها زمنا ليس بالقصير، والتي اكتشفتها ـ كما يقول عبد الله العروي، عن طريق الغرب.))(5).
وتتأكد هذه الملاحظة الخاصة بالمرجعيات المعرفية، التي يستحضرها مؤدن للاستفاضة في الوصف والتحليل والتفسير والمقارنة، بمراجعة صفحتي 25 – 26 من الكتاب، اللتين ركز فيهما عبد الرحيم مؤدن، معرفته الواسعة بالأحداث الاستثنائية في التاريخ الحديث لمصر، عبر لائحة طويلة شملت ناسها العاديين، وأعلامها المشهورين، ومقاهيها الأدبية، ومنتدياتها الدورية، وشوامخ إبداعاتها. معرفة لا تتأتى إلا لمن كان متواصلا ثقافيا مع مصر والقاهرة بالذات، عبر حياته الطويلة ، بواسطة الجريدة والمجلة والكتاب والفيلم والمذياع والتلفزة واللقاء الثقافي المباشر.
والحقيقة، أن عبد الرحيم مؤدن، لا يفوت فرص زيارة هذه المدينة وتلك، دون أن يعرض لمظاهرها الثقافية المستنيرة، والفنية المدهشة، فضلا عن مكوناتها البشرية والاجتماعية، فتكون لحظة مواتية للتعبير عن رؤية الكاتب الثاقبة، بما تزخر به من مؤهلات ثقافية وفكرية وفنية، تجاه الموصوفات المشعة للجمال والحضارة والتمدن، فتضفي عليها مزيدا من عناصر القوة والتأثير والجمال. وبذلك يتم التجاوب بين الذات والموضوع من أجل اكتمال صورة الموصوفات خلال الرحلة.
وتتعزز هذه الحقيقة، بتأكيد قولة كونت دبوفون (الأسلوب هو الرجل). فشخصية عبد الرحيم مؤن القصاص، لم تغب عن مسرح الرحلة بكل مشاهداته. فهو يوظف قدرة القصاص على اقتناص التفاصيل اليومية الصغيرة، في تسجيله لمختلف مظاهر الحياة والمرافق الحضارية، في الفضاءات التي يزورها. إذ ساهم أسلوبه الدافئ النابض بالصدق والتأمل وطاقة الاستيعاب والكشف والنقد، في الرفع من مستوى جماليات المشاهد الموصوفة بلغة سردية جميلة. ويدفعنا هذا الملمح المميز في كتابة رحلاته، إلى أن نؤكد أن شخصية عبد الرحيم مؤدن القصاص، حضرت بثقلها في إضفاء جمالية خاصة على أسلوب كتابة الرحلات الأربع. إذ ساق مشاهداته بنفس إبداعي، لا يخبرك فقط، بل ويمتعك بجمالية عباراته، ومعجم أوصافه، وصوره اللطيفة من مثل (يشهق “الأكورديون” شهقته الأخيرة)(6)، واستعاراته وتشبيهاته الطريفة، أمثال (نوافذ صغيرة مثلثة السقوف بعيون زجاجية، وكأنها خوذات “الساموراي”)(7)، مما يؤثر بتوريط المتلقي في إيهام، يتخيل معه أنه هو الذي قام بالرحلة وليس المؤلف ذاته. دون أن نتجاهل القول بأن، كل ما في الكتاب، قد ساقه المولف في لغة جميلة منسابة ومسعفة.
وفي كلمة واحدة، إن الأستاذ الدكتور عبد الرحيم مؤدن، قد أضفى على هذه الرحلات، بصمات سيرته الذاتية حياتيا وأدبيا، حين كتبها بحس الأديب المبدع الفنان، وليس بحس السائح العابر.
هوامش :
1) صدر عن المطبعة والوراقة الوطنية، مراكش، 2013.
2) نفسه، ص.84.
3) نفسه، صص. 58-59.
4) نفسه، صص. 51 – 52.
5) نفسه، ص. 43.
6) نفسه، ص. 37.
7) نفسه، ص. 39.
شكرا للأخ مصطفى يعلى.