14 نوفمبر, 2011 – 12:52
مد اللسان الصغير في وجه العالم الكبير
القارئ للسرد العربي المعاصر، لن يمر مرور الكرام على علامات تزداد نصاعة، بمرور الأيام والحقب، بحكم الحاجة الدائمة إلى ما كتبته برؤية -ورؤيا أيضا- عميقة جعلت من هذه الكتابات أشبه بالحكم أو الوصايا المتجددة. ولا تعود شهرة الكاتب إلى تجذره، أسرة ومواقف ومسؤوليات، في المسار الوطني والقومي لهذه الأمة، بل تعود، أيضا، إلى نوعية إنتاجه الفكري والإبداعي، الذي رصد، من خلاله، مفارقات الزمن العربي، كما عكسته بعض نماذج عموده الشهير في جريدة «الزمان» المهاجرة.
وأكاد أزعم، أن نصا إبداعيا مثل نصه الشهير المعنون بالصياغة السجعية المقصودة:
«مد اللسان الصغير في وجه العالم الكبير»، لم يقرأ قراءة نقدية ترصد الآتي قبل الحاضر، دون أن تتنكر للماضي. ذلك أن الحاضر، في النص المشار إليه أعلاه، وفي معظم كتابات «مؤنس الرزاز» ماهو إلا نتيجة للتنكر لأجمل مافي الماضي من جهة، والعجز- من جهة ثانية- عن فهم مؤشرات محددة تنبئ بقدوم مستقبل لا لون له ولا طعم ولا رائحة.
أسلوب مؤنس الرزاز في «مد اللسان….» نابع من مرجعية «السخرية السوداء». والسخرية السوداء، كما هو معلوم، تتجاوز الدعابة ،أحيانا، والطرفة، أو النادرة، أحيانا أخرى، تتجاوز كل ذلك نحو الهجاء، بالمعنى الإبداعي. هي سخرية تقوم على توظيف المفارقة -كما هو الشأن عند زكريا ثامر- الكاريكاتورية، المجللة بالسواد بحكم ارتدادها إلى الذات، قبل أن تتجه نحو العالم الخارجي. فكلنا «في الهم شرق وغرب» -كما وردت في النص- لم تصل، بعد، إلى تخوم الهجاء، ولكن إذا أضفنا إلى هذا الهم المشترك، شرقا وغربا، الجمل التالي: (وذلك دليل على الديمقراطية) أو (وذلك دليل على المساواة) أو (لامفاضلة بين الذات والآخر) ..أقول: إذا أضفنا ذلك سنصل إلى فضاء السخرية السوداء التي انتقلت من وصف الظاهرة الموضوعية إلى رصد الانكسار الذاتي، من الواقع الملموس، أي الإيهام والتوهم. ذلك ما كان يفعله «مؤنس الرزاز» عندما أخرج لسانه ن الصغير- وهي لوحة طفلية لأعلى مراحل الشيطنة والرفض واللامبالاة – للعالم الكبير.. إنه أضعف الأيمان، مادام إخراج اللسان، في هذا الزمن، هو محاولة جريئة لتغيير المنكر، في زمن احترف فيه الناس الصمت، أو قدت- من جهة أخرى- ألسنتهم على مقاس واحد- وتلك أعلى مراحل ز من المأساة- فنطقوا بلغة واحدة،واشتركوا في ذائقة واحدة، ففقدوا نتيجة لذلك حس التمييز بين اللغات والأطعمة والمسلكيات…
والسخرية السوداء -عند مؤنس الرزاز- ليست، بالرغم من ارتدادها إلى الذات لفهم العالم، سخرية عدمية، بل إنها سخرية
فاعلة بالرغم من كونها آخر
الحصون، أو الأسلحة. وهو بذلك
يشارك زكريا ثامر وإميل حبيبي، وبعض مقاطع غالب هلسا في ملحق روايته المميزة الضحك.
من منا لم يستشعر عمق السخرية المرة في هذه الرواية، عند سؤال السارد عن أغزل بيت قالته العرب؟ يأتي الجواب على الشكل التالي:
ماذا تقول لأطفال بذي مرخ زغب الحواصل لا ماء ولا شجر
ألا يعد هذا البيت الغزلي من أعلة مراحل السخرية السوداء؟ ألا يعد «الغزل» بالجوع غرضا جديدا لم ينتبه إليه النقدة والكتبة؟ أليست السخرية -كما قال لوكاتش- محاولة لتجاوز تعاستنا الحاضرة؟ ألا يعد انتخاب مسؤولي الأمة العربية، بما فيها رؤساء الجمعيات والفروع والشعب والهياكل بنسبة 99 في المائة سخرية سوداء؟ ألا يعد انهزام كل الفرق العربية في المباريات الدولية دلالة على أصالة هذه الأمة؟ ألا يعد إخراج اللسان جريمة يعاقب عليها القانون الفاقد لكل لسان بحكم امتلاكه ليدين بقفازين دون سائر الأعضاء؟ ألم يشرع الحكام العرب ضرائب متعددة على الجفون بعد أن صنفوها في عداد البالكونات، وحددو مقدار الهواء لكل مواطن، حفاظا على البيئة، والتنمية.. إلى آخر القائمة. ألا يعد ذلك منتهى السخر والهذر؟
كان النص المشار إليه أعلاه (مد اللسان…) من النصوص التي حركتها هواجس البحث عن سرد بنكهة عربية مميزة، انطلاقا من العنوان المقامي -نسبة إلى المقامة- مرورا بتمفصلات النصوص
العازفة، يحفر في الذات عميقا، بالرغم من حدة النصل، مسايرا بذلك ما فعله الساخرون العرب، قديما وحديثا، في نصوص محددة أضاءت مظاهر الإحباط والخوف والعجز والاكتئاب.
أذكر أن «مد اللسان….» -في مرحلة الثمانينيات- شكل الكتاب، كان في حجم كتيب صغير، يستقر بمكتبتي، بجانب أحبة، منهم من قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، يتبادلون، على الرفوف، الطرفة وراء الطرفة، والملحة تلو الملحة،والنظرة النافذة، في أعقاب الأهجية اللاذعة…البارحة ألقيت نظرة سريعة على رفي الأثير-الرف الساخر من المكتبة- فوجدت الكتيب قد تناسل مجلدات ضخمة، في واقع ازداد سماكة وسماجة، وازداد أيضا ألسنة غطت الساحات والفضاءات، من المحيط إلى الخليج، من الخليج إلى المحيط، كلها امتدت في وجه العالم الكبير الذي ضاق بما رحب.. والعاقبة للمتقين.