هذا المقال يحتوي على: 685 كلمة.

حجم الخط

remove add

عناصر عالم هذه المجموعة القصصية أربعة: المفارقة/ البطل الماكر بالمعنى الإبداعي/ التناص/ تذويت اللغة.

1. المفارقة: عصب معظم هذه النصوص التي تنتشر فيها المفارقة، بالتصريح والتلميح، حدثًا وشخصية ومعجمًا، مما يؤكد على التلاحم الدائم بين القصة القصيرة من جهة، والمفارقة، من جهة ثانية. ولا حاجة إلى التذكير بالهوية الأجناسية للقصة القصيرة، والتي تقوم، في جوهرها، على المفارقة، من حيث كونها حافزًا للكتابة والتجنيس في آن واحد.

ما مصدر هذه المفارقة؟ الجواب على هذا السؤال يلخص في كلمة دالة على مفهوم عميق هو: الخلل. ما منبع هذا الخلل؟ تجلياته؟ أساليبه وصيغه؟

في المجموعة القصصية الحاملة لعنوان فقاقيع[1]، نلمس منبع الخلل الأساس المنتشر في العالم، ولو كان في حبة رمل، والذي يتسبب فيه الكائن الإنساني (الجحيم هم الآخرون) بتجبره وأنانيته، فضلاً عن مسلكيات عديدة كرست هذا الخلل في القول والفعل، في الظاهر والباطن. الخلل، إذن، ليس قدرًا لا مفر منه، بل إنه ممارسة إنسانية تشيئ الإنسان حينًا، وتدمره، حينًا آخر.

وتستند المفارقة في هذه المجموعة إلى الأساليب التالية:

السخرية: استخدام السخرية وسيلة “لتجاوز تعاستنا الحاضرة”، كما عبَّر عن ذلك “لوكاتش” في تحليله لـ “الرواية التاريخية”. وهذه “التعاسة” التي أسهمنا في صنعها جميعًا، نجدها في بعض نماذج هذه المجموعة.

في البرتقالة القاتلة، ص 5 – والعنوان لا يخلو من هذا الحس الساخر – يسوي الموت بين الجائع والمتخم. الأول يموت من فرط الجوع، والثاني يختنق من شدة الشبع.

في قصة طريق الخلاص، ص 20، يسخر المسؤول من السائل، وهو يدفع به نحو مسار لا علاقة له بالخلاص، من قريب أو بعيد.

في قصة الفارس، ص 36، سخرية مرة من الحالمين بأقصر الطرق للمجد، عوض المعاناة والعرق.

في قصة بائع الذباب، ص 60، نقد ساخر لمظاهر التلوث المتعددة، التي نافس فيها الذباب السمك، وأصبح سلعة تباع وتشترى.

ولا يكاد يخلو نص من نصوص المجموعة من لمسة ساخرة، بطريقة مباشرة، أو غير مباشرة. ويتحقق المظهر الساخر في هذه النصوص عبر أسلوبين:

–       التحويل الذي يسمح باختراق محكي سابق، واستنباته في المحكي الحالي. في قصة وتقيأ قطا، ص 37، تحويل لحالة الشاعر الشهير الذي أصر على الشرب إلى أن “يرى الديك حمارًا”. وفي قصة قوة إقناع، ص 42، تحوير لسلوك الحلاق الذي يتابع رش مدخل الحانوت بالرغم من سقوط الأمطار المتهاطلة.

وقد يصبح التحويل ممارسة استبطانية للذات الخاضعة لاستيهامات محددة منبعها مضاجعة “سيارة ليردوز” المتكررة، وما يصاحبها من احتلام واغتلام. وفي قصة ثورة، ص 86، يتم التحويل الساخر عبر الانتقال من “عقلانية” الحيوان، إلى “حيوانية” العقلاء.

–       استثمار لحظات سوء التفاهم بين الشخصيات بهدف خلق اللحظة الحاسمة المغلفة بالمفاجأة والإثارة. في قصة الفراق، ص 8، يوهم السارد المتلقي بالحديث عن سر إدمانه على امرأة محددة، اتصفت بكل المثالب إلى الحد الذي “كانت لا ترفض أن نتناوب عليها أنا وصديق لي”، ص 8. وقبل أن يفتح المتلقي فمه، محتجًا أو مندهشًا، ينزل السطر الأخير، بردًا وسلامًا، على لسان السارد وهو يزيل الالتباس بهذه الصرخة: “إلى الجحيم سيجارتي”، ص 8.

وتجدر الإشارة إلى أن الأسلوب الساخر، في هذه المجموعة، يتوزع بين “الهجائية”، التي تقوم على النقد والتعرية، حينًا، وتقوم، حينًا آخر، على التنكيت والتبكيت، دون الابتعاد عن الرغبة في التقويم والتصحيح بلمسات ساخرة سريعة ذات إيحاءات مختلفة.

ويأخذ “سوء التفاهم” أبعادًا أخرى في قصة المذيعة، ص 90، التي قامت على “حوار الصم” بين الرجل المهووس بجهاز التلفزة الجديد، وبين الزوجة التي لم تتردد في نقل هذا الغزل من الآلة إلى المذيعة. ألا يعكس سوء التفاهم الحالي اهتزاز العلاقة بين الزوج والزوجة؟ هل يمثل كل واحد منهما – كما حدث في قصة همنجواي الشهيرة قطة تحت المطر – عالمًا منفصلاً، قائم الذات، مفرد الاهتمامات والرغبات؟

2. البطل الماكر: أقصد بالمكر “الشيطنة الإبداعية” التي يخرج من رحمها سارد يعرف مواطئ قدميه. ومن ثم لا يتردد في ممارسة “احتياله” على المروي، سواء تعلق ذلك بالشخصية، أو الحدث، عن طريق استهداف ما يخلخل العالم. في قصة نادلة ينبري السارد الماكر في منح سواد النادلة بعدًا جماليًا، في سياق غزل لا يتقنه إلا من خبر جيدًا قوانين اللعبة.

وفي قصة ليلة القص، ص 74، يفاجئ السارد المتلقين بامتناعه عن الحكي، بعد أن “احتال” عليهم بطريقة ذكية مرر عبرها مفهومه للقص دون أن يقص.

وفي قصة القنفذ الأملس، ص 23. تحضر كليلة ودمنة، حينًا، وزكريا تامر “غراب بالألوان“، حينًا آخر، للبحث عن ضحايا “سرير بروكست”، أي الذين “لا يمدون أرجلهم على قدر لحافهم”.

وعلى نفس المنوال تسير قصة مجرد حلم، ص 25. وهذه المرة بهدف الانتقام من مفسدي الأرض. كما أن قصة قضية، ص 39، فضح للقوانين المختلة نظريًا وتطبيقًا.

3. التناص: لا تتردد هذه النصوص في محاورة النص الغائب الحاضر، عبر أنماط الكتابة، سردًا وشعرًا، فضلاً عن التعالقات النصية مع شخصيات تاريخية، أو ممارسة للكتابة الإبداعية. لنضرب بعض الأمثلة المستوحاة من المجموعة:

–       شعرًا: شارل بودلير في أزهار الشر التي تتحول إلى (الأزهار المندغمة)، ص 89؛ الشعر العربي القديم “وأحبها وتحبني ويحب ناقتها بعيري”، ص 15.

–       المثل السائر: وقد يكون مثلاً مستوحى من المأثور “الدنيا جناح بعوضة”، أو متداولاً من المتن السائر، “إن وراء البغلين ما وراءهما”، ص 53. وهو تحوير للمثل الذائع: إن وراء الأكمة ما وراءها.

–       شخصيات تاريخية: مثل السندباد، أو عباس بن فرناس.

–       شخصيات فكرية أو فلسفية: ديكارت (مسح الطاولة) ص 33؛ داروين (قرد.. قرد)، ص 66.

–       الشريط السينمائي: الصور المتحركة (سلسلة توم وجي: سباق التسلح، ص 72).

4. تذويت اللغة: القارئ لهذه المجموعة، وغيرها[2]، يلمس، عن قرب، صوت السارد المميز بنبرته الخاصة. وهذا أمر ليس من السهولة تحقيقه في عالم يضج بصخب النصوص، وتنوع السرود الآتية من كل حدب وصوب. ولعل هذا ما يفسر ظاهرة الحوار المستمر بين السارد وسرده، أولاً، وثانيًا، بين السارد والسرود الأخرى المقروءة والمرئية والمسموعة.

في المستوى الأول، تبني القصة بتؤدة وعناية، مع الحرص على وضع الكلمة في موضعها. السارد ينحت من صخر، بعد أن شذب الكلمة، وهذب المعنى، ورسخ الدلالة. (“جئنا إلى رحلة وليس إلى نحلة” ص 80؛ “إن وراء البغلين ما وراءهما” ص 53؛ “ليس في القنافذ أملس، ومن غدا كذلك يصبح أنجس…”). وهو، من ناحية أخرى، يغترف من بحر، عن طريق الالتفات إلى التجربة الإنسانية، المتسربة من مسارب التجربة الذاتية. ولعل هذا ما يفسر غلبة ضمير الغائب – وهو الضمير النموذجي للسرد – على المجموعة بحكم ارتباطه بـ”الكائن” في ضعفه وقوته، شرهه وقناعته، ذكائه وبلادته، قدرته وعجزه… (قدم من المهجر… انقلب رأسًا على عقب كأنه ليس من أعطان هذا المدشر المترامي بين سفوح الجبال والنسيان) ص 49. (بدأ اللعب وانتهى في عشب معلب، وتحول إلى داحس والغبراء من قبل شعب معلب) ص 67.

ووعي الكاتب بطبيعة اللغة السردية هو الذي كان وراء تخصيصه لأربع قصص لطرح إشكالية الكتابة القصصية. في قصة فقاقيع التي عنونت بها المجموعة تتمرد الشخصية على سارد يتمرد، بدوره، على هذه الأخيرة بسبب تعارض مفهوم كل منهما للقص. فالشخصية تنتصر للفضاء الملحمي بحكم خضوع القصة للأزمنة المتداخلة ولتواتر الأحداث الجسام، والسارد يرى أن ذلك لا يمنع من التعبير عنها بـ”الشبريات” – وهو مصطلح القدامى للمقطعات الشعرية المكثفة – القصصية.

من ناحية أخرى، يجب الاعتراف بأن صناعة بطل ما لا يجب أن يكون مدعاة لحرمانه من حرية الحركة. فالشخصية النصية تمتلك حياتها الخاصة، مثل السمك في الماء الذي لا يرضى عنه بديلا. والسارد يملك سلطته الرمزية التي يجب أن تحترم سلطة الشخصية داخل النص الذي يأخذ في الاستقلال التدريجي عن سلطة السارد، إلى أن يمتزج بالهواء واللغات السائدة والتفاعلات المتعددة.

ولعل هذا ما يفسر حرص السارد على كتابة قصة قصيرة تخضع للحمية بعيدًا عن الحشو، من جهة، أو التكرش، من جهة ثانية. (حمية، ص 44). ومن ثم لم يتردد هذا السارد في إبراز موقف النقاد العدائي من هذا اللون، بعد أن كتب الموضوع ذاته بشكلين متمايزين: شكل القصة القصيرة جدًا المؤود، وشكل الرواية الذي خلق كسادًا شاملاً في الساحة الثقافية.

وفي اعتقادي – على اختلاف التسميات – إن القص يظل قصًا، في كل الأحوال، شريطة تحقيق المتعة، من جهة، والالتزام بالموقف الإنساني، من جهة ثانية. وهذه المجموعة، فضلاً عن نصوص أخرى[3]، حققت الشيء الكثير من ذلك، وكشفت لنا عن معدن قاص يضع يده على قلبه قبل أن يكتب الحرف الأول.

وتستند بعض النصوص إلى نوع من التعجيب المستوحى من تقنيات هذا النوع من الأشرطة (ربوتان) ص 48. وبالإضافة إلى ذلك، فالتعجيب قد يخترق جسد النص، عن طريق تنظيم فضاء الحكي عبر بنيات نصية وعناوين نصوص سردية ضمنية، ومقطوعات غنائية ووقائع تاريخية وتعبيرات مسكوكة وصيغ متداولة. وفي معظم الأحيان يتم توظيف، ما سبق ذكره، في عناوين قصص المجموعة، عن طريق البعد الساخر، أحيانًا، أو عن طريق النقد، أحيانًا أخرى. هكذا يتم نقل هذه العناوين من “مجالها الحيوي” – لغة وتاريخًا ودلالة – إلى مجال تداولي جديد يخدم البعدين السابقين، علمًا أنهما يتكاملان للوصول إلى الغاية ذاتها، أي بناء عالم إنساني تسود فيه قيم الحب والخير والجمال. ومن ثم، فالسخرية قلب لواقع مهترئ، ومحاولة – كما سبقت الإشارة – لتجاوزه نحو واقع أفضل. (الصحيفة، حب على شاكلة البعير، النزوح الأكبر، طريق الخلاص، القنفذ الأملس، قارئة الفنجان، مسح الطاولة، بطل تراجيدي، بورتريه، الكيميائي، السلطة الرابعة، داحس والغبراء، سباق تسلح، الرجل الطائر،…).

*** *** ***

horizontal rule

[1] جمال الدين الخضيري، فقاقيع، قصص قصيرة جدًا، دار التنوخي للطباعة والنشر، الرباط، 2010.

[2]  جمال الدين الخضيري، وثابة كالبراغيث، قصص قصيرة جدًا، مطبعة الأنوار المغربية، وجدة، 2011.

[3]  انظر على سبيل المثال القصص التالية: ارتحال، ص 52. الرقص في زمن المسغبة، ص 78. رحلة مسرفة في القصر، ص 80… من مجموعة وثابة كالبراغيث.

شارك هذا المقال على:
فقاقيع
قراءة في المجموعة القصصية فقاقيع لجمال الدين الخضيري

كتب 67 مساهمة في هذه المدونة.

حول الكاتب :

إن أ.د.عبد الرحيم مؤذن، شخصية إنسانية وثقافية وإبداعية.فهو أديب وقاص وناقد مغربي وباحث خاصة في أدب الرحلات . ولد بمدينة القنيطرة المغرب سنة 1948 وتوفي بهولندا في 27 يوليو 2014م.

editأكتب له أو تتبعه على:

علق على هذا المقال :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

*account_box
*email
*comment_bank
You may use these HTML tags and attributes: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <s> <strike> <strong>