عبدالرحيم مؤدن
يستند هذا النص المبكر1للكاتب إلى الحكي التسجيلي (الوثائقي) الذي تداخل فيه ‘الأوتوبيوغرافي’ بـ ‘البيوغرافي’، الواقعي بالمتخيل، التاريخ بالحكاية، الحجاج بالتأمل. وعبر هذه الثنائيات المتفاعلة، في جسد النص، برز المكون الرحلي اللاحم لهذه الثنائيات من جهة، والمتحكم، من جهة ثانية، في آلية اشتغالها التي كانت وراء صياغة سردية تفاعل فيها الروائي بالرحلي بأبعاد مميزة سيأتي الحديث عنها لاحقا.
الرحلة الكبرى والرحلات الصغرى
1 ـ الرحلة الكبرى:
مكانا:
أ-هي رحلة من الخارج إلى الداخل، من خارج فلسطين إلى داخلها المحتل. الخارجمحتل من قبل الأنظمة العربية التي يمارس قادتها الخطاب المزدوج:خطاب الاستسلام من جهة ، وخطاب المقاومة من جهة ثانية.
ب- وهي رحلة من الداخل إلى الخارج، نفيا وهجرة وتهجيرا واقتلاعا وطردا واغتصابا. هجرة من داخل الوطن إلى المنافي البعيدة.
ج- وهي رحلة من الذات إلى الذات، من الأنا الفردي إلى الأنا الجمعي، وتالعكس بالعكس صحيح. كما أن الهجرة، نتيجة لذلك، تأخذ طابع الانتقال من الفرد إلى العشيرة، ومن القطري إلى القومي، ومن الاسم إلى السلالة، من الكائن إلى الوجود، من الكيان إلى ‘الأنطولوجيا’.
د- وهي رحلة من الذات إلى الآخر، من الشرق إلى الغرب، من النفي القهري إلى النفي الاضطراري، من الرمضاء إلى النار.
زمانا:
أ- تمتد الرحلة الكبرى على مساحة زمنية- زمن الأحداث- تتوزع بين1969-1975. ولاشك أن هذه المرحلة- وقائعيا- من أخصب مراحل التاريخ العربي الحديث، والمعاصر، سواء على مستوى المقاومة الفلسطينية، أولا، وحركة التحرر العربية، ثانيا، وانتصارات الشعوب المضطهدة، ثالثا، وترسيخ- رابعا- ‘دولة العمال والفلاحين’ في مناطق من أوروبا وآسيا.
ب- وزمن الوقائع، المشار إليه أعلاه، لايمنع من رسم مسار زمني مستند إلىوقائع محددة، قد تسبقن أو تتجاوز المرحلة الزمنية، المشارإليها سابقا، او- من ناحية ثانية- قد يخلق زمنا خاصا تميز بالآتي:
ج- زمن الشخصية المركزية- شخصية مخلص- التي تحرص على تأسيس روابط خاصة بالزمن الموضوعي، أوزمن الوقائع. ومن ثم أفرزت هذه العلاقة مستويات من الروابط الحميمية نسجها ‘مخلص’ مع لحظات المد والجزرفي التاريخ الفلسطيني الحديث ، والمعاصر، بل إن لحظات المواجهة العسكرية بين المقاومة الفلسطينية والعدو الاسرائيلي، لم تبتعد عن المنظور الخاص لـ’مخلص’، وهو يسرد لحظات اجتياز نهر الأردن، أو قطع الأسلاك الشائكة في مناطق حدودية معينة…ولو حاولنا المقارنة بين مقاطع من رواية ‘الشياح’ لـ’إسماعيل فهد إسماعيل’، وبين مقاطع من نص ‘الرحلة الأخيرة’ل’هشام شرابي’ حول ثيمة المقاومة المشتركة بين النصين، لوجدنا تركيز النص الأول على تقديم مقاطع
حربية ناجحة، في الكر والفر، في حين كان نص ‘الرحلة الأخيرة’ يقدم الجانب الحميمي لعلاقات المقاتلين، والمقاتلات، قبل تقديمه للمواجهات العسكرية.
د- ومن الطبيعي- تبعا لذلك-أن تسهم كل شحصية من شخصيات النص، في بناء هذا الزمن الخاص الذي تصوغ، بواسطته، علاقاتها المتعددة مع الأرض والانسان. هكذا كان كل من ‘باسم’، و’مفيد’و’ منير’و’ياسر’- داخل الوطن أو خارجه- تجسيدا لهذه العلاقات الوجدانية، بين الكائن والوطن، موقفا وذكريات وأحلاما وممارسة نضالية.
2- الرحلات الصغرى: من خلال عناوين الفصول الخمسة- وهي في الوقت ذاته مراحل الرحلة- انطلقت رحلة السارد ‘مخلص’، كشخصية مركزية، عبر مسار مرسوم بدقة، تحكمت فيها روافد محددة، شكلت نهر الرحلة الكبرى على الشكل التالي:
1- رحلة الأغوار: وفيها ينتقل السارد ‘مخلص’ إلى قواعد المقاومة- بعد معركة الكرامة الشهيرة- والمجموعة التي تستعد لعبور النهر يتأهب أفرادها- وأبرزهم قائدها ‘مفيد’- للقيام بإحدى العمليات الفدائية. في هذه الرحلة القصيرة، والتي كان ينتظرها ‘مخلص’ على أحر من الجمر، نتعرف على الحياة اليومية لمجموعة فدائية من مقاتلي فلسطين، سواء على المستوى الايديولوجي، من خلال النقاش المتواصل بين الفصائل، أو على المستوى العملي ، من خلال التحضير العسكري للعملية الفدائية.
2- رحلة ‘يافا’: إنها الرحلة المنتظرة بالنسبة لكل فلسطيني طرد من أرضه.وإذا كانت رحلة ‘يافا’ تخص شخصية هامة من شخصيات النص-شخصية مفيد- فإن أبعادها الحقيقية تكمن في إضاءة شخصية ‘مخلص’ من جوانب عديدة. ومن ثم، يصبح ‘مفيد’ المقاتل، الوجه الآخر لـ’مخلص’ المنظر، والباحث في الذاكرة الفلسطينية، فضلا عن القواسم المشتركة التي تجمع بين الشخصيتين: شخصية مخلص وشخصية مفيد (الانتماء إلى يافا/المزاوجة بين النظرية والسلاح/الكتابة..الخ).
وتتميز هذه الرحلة بالذهاب والعودة، أو الانتقال من الخارج- خارج الوطن- إلى الداخل، داخل فلسطين.
3- رحلة بيروت الأولى: وهي رحلة ‘مخلص’ إلى لبنان لتسلم منصب تعليمي بالجامعة الأمريكية ب’بيروت’.غير أن هذه الرحلة سمحت ، ايضا، بالتعرف على جانبين أساسيين:
جانب المثقف الفلسطيني المقيم في لبنان، من جهة، أو المشتغل، من جهة ثانية، في أجهزة المقاومة.
جانب المخيمات الفلسطينية التي ازدادت انتشارا بعد هزيمة1967.
والجانبان معا، سمحا بتقديم معطيات وثائقية أضاءت القضية الفلسطينية، من الداخل والخارج.
ولا شك أن طبيعة علاقة مخلص’ بمثقفي القضية الفلسطينية، ومقاوميها، سمحت له باستقصاء امتدادات القضية في الوطن العربي، خاصة لبنان والأردن، من خلال انتشار المخيمات، من جهة، ولحظات، من جهة ثانية، الصدام الدامية بين الأنظمة العربية والمقاومة الفلسطينية.
ولم يكتف مخلص بالاستفادة من دفاتر السفر، توثيقيا، بل قدمت هذه الدفاتر، ايضا، حواراته الذاتية، وكوابيسه المزعجة، الناتجة عن صدى الهجومات الوحشية لجيوش الأنظمة العربية (معارك ‘/ العجلون جرش’..). في المستوى الأول نجد الحوار الذاتي المنقول عن طريق السارد نفسه، أي مخلص. (نظر مخلص من نافذة الطائرة إلى الأكواخ والبيوت الخشبية التي بدت كالألعاب، ورأى ظل الطائرة ينساب على الأرض بسرعة متزايدة كلما اقتربت الطائرة من المدرج، وقال في نفسه:’نأتي ونروح في الدرجةالأولى وهم قابعون في أكواخهم) النص.ص، 63.
وفي المستوى الثاني- مستو ىالكوابيس- نجد المثال التالي’ استيقظ فجأة في الظلام الحالك..أضاء الضوء…إنه في طائرة هيلوكوبتر تصعد ببطء..فيرى الشارع الممتد من مدخل السور إلى بيت جده… سواح يتكلمون الانجليزية. يعرف أنهم يهود.. السيدة تقول شيئا، ثم تضحك.الرجل ينظرإلى الناس حوله باحتقار ويقول:
– عرب قذرون.
… وينتفض، إذ يكتشف فجأة، أن ما حوله أنقاض مثل أنقاض المدن الألمانية بعد نهاية الحرب العالمية الثانية..وفجأة يسمع إطلاق النار.) النص.ص.105/106.
4- رحلة بيروت الثانية: رحلة أخرى نحو قواعد المقاومة الفلسطينية المتقدمة. وهذه الرحلة ، في جوهرها، تمتين للوشائج بين مناضلي الثورة، عامة، وكتابها، وبين مناضليها الحاملين للسلاح على مشارف الحدود.
ولم تكن الرحلة بالأمر السهل، من حيث المسالك والممالك، بل كانت رحلة، مثل الرحلات السابقة، لعرض وجهات النظر الفلسطينية حول أساليب تحربر الأرض والانسان.غير أن هذه الرحلة ستسهم في إبراز دلالات أخرى انسحبت على طبيعة المقاومة الفلسطينية في الداخل والخارج.وعوض أن تكون الشهادة داخل أرض الوطن، سيصبح الاستشهاد خارج هذه الأرض، بعد انفجار طرد ملغوم في غرفة ‘أكرم’ أحد مناضلي الفصائل الراديكالية في المقاومة الفلسطينية.
5- الرحلة الخامسة: وهي رحلة حملت عنوانا دالا، عنوان الجنوب.وتقوم هذه الرحلة على إنجاز عملية فدائية داخل الأرض المحتلة، وصدى- من ناحية أخرى-هذه العملية الفدائية في الاعلام العربي من جهة، وفي الاعلام الصهيوني ، من جهة ثانية.
وتميزت هذه العملية الفدائية باستشهاد بعض مقاتلي المجموعة، وعلى رأسهم صديقه مفيد.
هكذا ابتدأت الرحلة الأولى- رحلة الأغوار- باستعداد مفيد للقيام بالعملية الفدائية المنتظرة، وتنتهي هذه الرحلة بالرحلة الأخيرة، أو ماقبل الأخيرة، – رحلة الجنوب- بانجاز هذه العملية على تراب فلسطين، واستشهاد قائدها ‘مفيد’.
كان مخلص، في هذه ا لأثناء، يتابع شريط الذكريات التي جمعته بالعديد من المناصلين، ومنهم مفيد، وبين يديخ مذكرات ‘مفيد’ الذي قدم، من خلالها، آراءه في الثورة والأوضاع العربية والعالمية، مع وجود لحظات حميمية ، شف عنها ‘ الدفتر عبر المدرسي’ التأمل في الذات والطبيعة والانسان.
كان مفيد يحب الثورة لأنه يحب الحياة، بالمعنى الواسع، التي تتسع لديه لكل الرغبات، والطموحات الفردية والجماعية، وكانت هذه الرحلات الخمس رحلات امتدت في مستويات عديدة منها:
1- رحلة اليومي المباشر للمقاتلين الفلسطينيين الذي يعتمد على الطابع التسجيلي، بحكم تمكينه للسارد من التقاط المعيش اليومي البسيط المتداخل باليومي النضالي عبر أسئلة الواقع بإكراهاته المتعددة التي عكست تشابك الذاتي بالموضوعي، الواقع بالحلم، الوطني بالدولي، العنف بالحوار.
2- إنها رحلة في التاريخ أيضا، تاريخ القضية الفلسطينية (مذبحة دير ياسين/حرب 48/هزيمة67/تقتيل الأنظمة العربية للمقاتلين الفلسطينيين/ اغتيال رموز الثورة الفلسطينة من قبل أطراف عربية وصهيونية/..) ورحلة، من ناحية أخرى، في رمزية التاريخ الفلسطيني عبر لحظات التذكر الخاصة بـ’مخلص’ من جهة ، وباقي المنتمين- من جهة ثانية- إلى حقل الذكريات المشتركة بين مخلص وأكرم ومفيد..
3- غير أن مسارهذه الرحلة اتسم بحركية مجسدة في:
أ- اتجاهها دائما نحو الداخل، وكل الرحلات ، سواء في الماضي أو الحاضر، لاهدف لها سوى الوصول إلى فلسطين. هكذا حققت الرحلة مفهومها الحقيقي الذي اقتضى الذهاب والاياب، خاصة أن طريق العودة، فلسطينيا، خضع لمزايدات كثيرة كانت تهدف إلى تحويل الفلسطيني إلى لاجئ أومجتث من أرضهô
الرحلة، في النص، ذهاب وإياب، خروج ودخول، سفر وعودة.
ب- كونها رحلة من الحياة والموت، ومن الموت إلى الحياة.في المستوى الأول ، تبدأ الرحلة بالخروج نحوالشهادة والاستشهاد, وفي المستوى الثاني، تصبح الرحلة رحلة مجازية، عبر حركية الذاكرة المغيبة مستنبتة في أرض فلسطين.
وفي المستويين معا، يكون الهدف الأساس من الرحلة هو رجوع الغائب عن فلسطين المحتلة حيا أوميتا.
من هنا لم تأخذ الرحلة، عبر نقطتي الذهاب والاياب، مسارا خطيا تعاقبيا، بل إنها اتخذت مسارا شبيها بحركة المد والجزر، الدخول والخروج، الذهاب والاياب.وهذا يؤكد على أن طرفي الرحلة- الذهاب والاياب- خضعا بدورهما لملابسات عديدة جعلت من نقطة الانطلاق، أو الخروج، لحظات متعددة الأشكال والمظاهر من تهجير فردي، وجماعي، واقتلاع وطرد ونفي..الخ.كما أن نقطة العودة ، أو الرجوع، تتسم، بدورها، بتعدد الأشكال والمظاهر من تسرب واختراق للحدود بصيغ متعددة، وعلى رأسها العمليات الفدائية التي قد تسمح بالدخول المؤقت، أو بالاستقرار النهائي، عن طريق الشهادة أو الاستشهاد.
الرحلة، إذن، لا تأخذ أهميتها إلا من حيث كونها رحلة غير منتهية في الزمان. فهي دائمة الانفتاح على المحتمل، سواء في حالة الذهابأو الاياب. ولعل هذا ما يفسرطبيعة العنوان- عنوان الرحلة الأخيرة- الذي يحمله النص مما يفسح المجال لتساؤلات عديدة تدورحول الآتي:
– هل هي رحلة مخلص الأخيرة التي منحته- وهو البعيد عنها جسدا
القريب منها روحا- إحساسا ممضا باللاعودة، وكأن هذه الزيارة ستكون هي الزيارة الأخيرة إلى فلسطين؟
ـ هل هي رحلة مفيد الأخيرة، بعد استشهاده على أرض فلسطين التي ضمته ضمتها الأخيرة، واستقر بها إلى الأبد؟
هل هي آخر محطة من رحلة التيه الأخيرة، بعد أن تعددت الرؤيات والمواقف وأساليب التعامل مع القضية التي حسمت حالة المد والجزر، بالانتماء النهائي إلى الكفاح المسلح، كما جسدته عملية مفيد الاستشهادية؟
ها هي الرحلة الأخيرة أم الرحلة الأولى؟ النهاية أم البداية؟ الرحلة الأخيرة هيرحلة البداية لـ’مفيد’ في لباسه المرقط، وإلى جانبه ‘ياسر’ و’أبو أحمد’ في اللباس ذاته؟ (كانوا يحملون في أيديهم بندقيات الكلاشينكوف، ويبتسمون إلى الكاميرا).ص.169.
خصائص السرد:
يتأرجح النص بين السرد الوثائقي والسرد الروائي المتخيل. ومن خلال هذا التفاعل بين السردين تمتد محطات حكائية حملت أسماء محددة، سبقت الاشارة إليها من حيث كونها محطات رحلية، وهي في الوقت ذاته، فضاءات روائية من خلال مرجعيتها المكانية التالية:
الأغوار.
يافا.
بيروت.
الجنوب.
والحديث عن هذه الأماكن يستدعي استحضار’ طوبوغرافيا’ الماضي والحاضر، البناء والتدمير، الـ’هنا’ والـ’هناك’. والسارد ‘مخلص’ ن سواء بضمير المتكلم ، أوضمير الغائب، يمارس، باستمرار، بناء هذه الأماكن، أوترميمها، وجدانيا، من جهة، وإعادة، من جهة ثانية، صياغة دلالاتها في الصراع الشرس مع الاحتلال الصهيوني.
وهذه ‘الطوبوغرافيا’ نسيج مشكل من رصيد الرحالة كما سبقت الاشارة- في علاقته برصيد المرتحل إليهم، سواء كانوا داخل الوطن أو خارجه، من مقاتلين ومواطنين رفضوا مغادرة الوطن، فضلا عن رصيد المكان ذاته مجسدا في الفضاءات المادية والرمزية لفلسطين بتاريحها وأخبارها ومحكياتها المتعددة.
جدلية الداخل والخارج، من جهة، والحاكي والمحكي عنه، من جهة ثانية، تحكما في إنتاج النص عبر أقنوميه الكبيرين: أقنوم التاريخ، وأقنوم الحكاية.
ولما كان المكون الفاعل في جسد الحكاية، وجسد التاريخ أيضا، هو المكون الرحلي، فإن السرد في هذا النص يخضع للصياغة الروائية قبل الصياغة الرحلية. هكذا كان السرد، في النص، متوزعا بين ضمير المتكلم حينا، وضمير الغائب، حينا آخر، مع التنصيص على الاسم، في سياق المحافظة على المسافة الدائمة ـ روائيا- بين السارد والشخصية.
تقدم لنا المؤشرات ‘الأوتوبيوغرافية’ المنشرة في النص، شخصية وزمانا ومكانا، لحظات المعرفة العميقة للسارد المتحدث عن مخلص، الذي لم يكن إلا حديثا عن ذاته.. ومن ثم فالاسم- اسم مخلص- ما هو إلا مستوى دلالي لارتباط السارد بالقضية، إخلاصا ، وتخليصا من ربقة العدو الصهيوني.
ومن أهم خصائص السرد اعتماده، فضلا عن الحكي الخطي، على الآتي:
أ- إنه حكي خطي موزع على الفصول الخمسة التي شكلت لوحات حكائية مستقلة، قاسمها المشترك ‘ثيمة’ فلسطين. وعبر كل لوحة تتعدد المشاهد الدالة، ويتم من ناحية أخرى- خلخلة خطية السرد، عن طريق زرع بؤر الذكريات ذات الطابع الوثائقي الذي تتخله لمسات شاعرية حانية تستدعي بعض ملامح اليفاعة، أو بعض ملامح وشم ذاكرة حية تقارن بين ما كان (فضاء/معالم محددة/وقائع/..) وبين ماهو كائن (القسم الثاني المعنون بـ’يافا’ والمكون من السرد والحوار من جهة، والمستنسخات، من جهة ثانية، من ملحقات وإعلانات وعناوين من جهة ثانية).
ب- وقد تقوم بعض هذه اللوحات على بنية المذكرات المقدمة عن طريق السارد مخلص- في الفصل الأخير المعنون بـ ‘الجنوب’. فاللوحة برمتها مشكلة من مذكرات مفيد التي حصل عليها مخلص بعد استشهاده. وطبيعة هذه المذكرات تقوم على تعدد المقاربات للقضية الفلسطينية من تحليل، أحيانا، وشاعرية، أحيانا أخرى، من تأريخ لمراحل الثورة، ونقد لبعض مظاهرها، من سيرة ذاتية للمتكلم، وسيرة غيرية للمناضلين، أحيانا، أو للناس البسطاء، أحيانا أخرى.
ج- وتشترك هذه الفصول الخمسة في خصيصة أساسية تجسدت في خصيصة الحوار الذي قام، في أغلبه، على الحوار المباشر، مع ندرة الحوار الذاتي، وللأمر ما يبرره، ما دامت المرحلة المسرودة(1969-1975) عن القضية الفلسطينية من أخصب فترات الثورة، سواء على مستوى التنظير، أو على مستوى الممارسة.
وأهمية هذا الحوار، فضلاعن ذلك، تكمن في أنواعه، أولا، وفي أبعاده ثانيا.على مستوى الأنواع :
الحوار وجها لوجه. وهو أكثر أنواع الحوار انتشارا في النص. كما أنه، من جهة أخرى، يعد حوارا ملائما لطبيعة القضية الفلسطينية، وما أثارته من جدل خصب حول تحرير الأرض والانسان.
حوار عن بعد، سواء عن طريق أشكال التواصل من هاتف ورسائل، أو عن طريق المقاللا الصحفي والرد التحليلي والرسائل المفتوحة. وهذا النوع من الحوار يلائم كذلك طبيعة القضية الفلسطينية تصحيحا ونقدا وتوضيحا.
3 ـ وهو حوار فصيح ولهجي في آن واحد. وفي الحالتين سمح هذا الحوار ببلورة المكونات الفكرية والنفسية للشخصية في مواقف عديدة.
هوامش:
1ـ هشام شرابي: الرحلة الأخيرة. دار طوبقال.1988