من أهم القضايا المطروحة، في مجال الأدب، قضية التصنيف. ومن أهم قضايا التصنيف: المعيارية. ذلك أن النص، سواء كان أدبيا أو غير أدبي، لا يأخذ صفته النوعية أو الجنسية -نسبة إلى الجنس الأدبي- إلا من خلال معيار محدد، هذا الأخير يظل معيارا للتصنيف، بحكم احتوائه على القواسم المشتركة بين النصوص، مدة زمنية معينة، إلى أن يتم خرق هذا المعيار بنص جديد يبحث عن مشروعيته في تراكم نصي جديد يسمح بتأسيس معيار جديد وهكذا.(1)
ولما كانت “الرحلة” نصا ملتبسا من حيث كونه ينتسب إلى الأدب أحيانا، وإلى النص، بمعناه الواسع، أحيانا أخرى، أدبيا كان أو غير أدبي، فإن إشكالية التصنيف، وبالتالي إشكالية الأدبية، تصبح من أعقد القضايا، في سياق الحديث عن النص الرحلي، بالقياس إلى النص عامة.
1 – حول مفهوم الأدبية:
من المفاهيم الملتبسة في ممارستنا النقدية مفهوم الأدبية، والأمر قد يعود إلى الترجمة المتداولة لهذا المصطلح سواء على المستوى النظري أو المستوى الإجرائي. وإذا كان النقد الشكلاني قد حسم هذا الالتباس بأن حدد الهدف من النقد في الأدبية، قبل الحديث عن الأدب، فإن ممارستنا النقدية ما زالت تدور في فلك المفاهيم البعيدة عن الدلالة العميقة لهذا المصطلح، مصطلح الأدبية. ومن أهم هذه المظاهر أذكر:
أ – ربط الأدبية بـالأدب علما أن الأدبية قد تعالج النص سواء انتسب إلى ما تعارف عليه مجتمع ما بارتباطه بـالأدب أو بعدم ارتباطه به. فـالأدبية تبحث في النص الأدبي أو النص غير الأدبي(2).
ب – الأدبية مفهوم متحرك في الزمان والمكان بسبب تحرك، أو تغير، مفهوم الأدب ذاته. فإلى عهد قريب كان “الخيال العلمي” و”القصة البوليسية” و”القصص المصورة” [B.D].. الخ وغيرها من النصوص ملغاة من رحاب الأدب الرسمي، أي أدب المؤسسة، بالمعنى الشامل، الذي جعل منها نصا تابعا لنص آخر أو لمرجعية أخرى مجسدة في المعيارية الأدبية. وبالإضافة إلى هذا وذاك، فالرحلة تستفيد -مثل باقي النصوص- من التحولات الأجناسية من جهة، ومن تطورات الجنس ذاته من جهة أخرى. فإذا كانت رحلة “ابن بطوطة” رحلة نموذجية، من حيث النوع الأدبي، حققت خصائصها البنائية، فإن ذلك لم يمنع من توفر نصوص لاحقة ظلت مدينة للمكونات الكبرى للنص مع توفر إضافات نوعية جديدة حاورت فيها الرحلة الاستطلاع Reportage، و”الألبوم Album” و”التقرير Rapport” الخ.
2 – أدبية الرحلة:
المقصود، إذن، بالأدبية ضبط المحددات النوعية لهذا الجنس. ولعله من البديهي أن نؤكد، مرة أخرى، استقلال النص بخصائصه المميزة مع ارتباطه، في الوقت ذاته، بالحقل الأدبي السائد. فالرحلة تحقق أدبيتها باقترابها من الأدب وبالابتعاد عنه في آن واحد.
ما ملامح هذه الأدبية؟
حاولت في دراسة سابقة(3) أن أقارب هذا السؤال. ويبدو أن نص الرحلة أصبح قادرا على مواجهة “التهميش” النقدي، سواء عن صواب، أو خطأ، بفضل اشتغال العديد من الباحثين بهذا الميدان. ولم يعد مقنعا الآن الحديث عن الرحلة كخطاب جامع مانع لكل المعارف والعلوم والأنساق. ولعل هاجس الأدبية الذي استبد بالبحث والباحثين، في هذه المرحلة، يؤكد على الاتجاه نحو إنصاف هذا الجنس(4). وسأحاول الآن الاقتراب من هذه الأدبية من خلال تحديد بعض مرتكزاتها الأساسية، مع الإبقاء على النوافذ المفتوحة لكل الإضافات المستقبلية الناتجة عن تعدد القراءات والمقاربات.
1 – من أهم محددات الأدبية في المتن الرحلي، هيمنة بنية السفر. فإذا كان السفر يتوفر في كل النصوص، ماديا أو مجازا، على شخصيات أو موضوعات، تقاليد ومرويات، إذا كان الأمر كذلك فالسفر في هذه النصوص يكون بنية ثانوية بالقياس إلى بنية مركزية. فالقصيدة العربية القديمة، على سبيل المثال، لم تخل من ارتحال الظعائن التي طاردها الشاعر في الحلم والواقع، غير أن هذا السفر ثانوي أمام مركزية بنية الشعر. وعلى هذا الأساس يصبح النص قصيدة دون أن يكون رحلة، هذه الأخيرة التي تقتضي هيمنة الرحلي على الشعري.
2 – وهيمنة بنية السفر تقتضي تحديد مفهوم السفر ذاته. فالسفر الاضطراري قد يكون نفيا أو هجرة أو ترحيلا أو اغترابا. السفر، إذن، فعل للارتحال، وإنتاج هذا الفعل يكون قصديا تقصد فيه الرحلة لسبب أو الآخر.
والسفر القصدي هو الذي يجعل من المتن الرحلي حاملا لخصائصه النوعية سواء على مستوى المسار العام للرحلة L’itinéraire، أو على مستوى -من ناحية أخرى- طبيعة علاقة النص بالرحلي بالنصوص الأخرى. يقول عبد الفتاح كيليطو في هذا السياق: “السفر يسمح بالتصنيف، وهو في الوقت ذاته، يمكننا من تلمس خصائص الكتابة، ما دامت الرحلة نوعا أدبيا يقلص من دور المصادقة، ويقدم لنا، بقدر كبير، قواعد إنتاج النص وقواعد تلقيه معا”(5).
ج – وفي حالة البحث عن شرعية أدبية لنص ما زال خاضعا للأخذ والرد، فإن ذلك يقتضي البحث عن معيارية السائد لإخضاع المسود. ولعل هذا ما يفسر هذه الصياغة [أدب الرحلة] التي تغمط حق النص في الاستقلال بـ”أدبيته”؟!
والمتأمل لهذه الصياغة [أدب الرحلة] يكتشف ربط الرحلة بـ”المعيارية” الأدبية السائدة. فالإسناد، أو الإضافة، يدل على جوهر هذه العلاقة المعيارية، في حين قد لا نستسيغ القول، على سبيل المثال، في أدب الشعر أو أدب المسرحية قياسا على أدب الرحلة.
د – وعلى هذا الأساس تصبح الأدبية مرادفة للشعرية أو “البويطيقا” التي تبحث في أدبية النص في حد ذاته، هذا الأخير الذي يجاور نصوصا ويزامنها، أحيانا، كما أنه يتقاطع معها أحيانا أخرى، محققا بذلك خصوصيته المفردة التي تسمح لنا بالحديث عن أدبية مميزة.
هـ – ولا شك أن الوصول إلى هذه المرحلة -مرحلة الأدبية- يتم عبر تراكم نصي، في الزمان والمكان، يسمح لنا بالحديث عن الجنس عوض الحديث عن النص. فـ”الرحلة” جنس أدبي قائم بذاته استنادا إلى تراكم كمي وكيفي ميزه عن غيره من النصوص دون أن يعني ذلك قطيعة مطلقة بين مختلف الخطابات السائدة في مرحلة محددة، وفي هذا السياق تسعفنا بعض الأطروحات الشكلانية الرافضة لنقاء النوع [ الجنس الأدبي ]. فالرحلة تحمل القليل أو الكثير من الخطاب التاريخي والجغرافي وعلم الأطوال والعروض، كما أنها -من ناحية أخرى- قد تحمل القليل أو الكثير، من الخطاب السردي عبر محكياته الحكائية أو الأوتوبيوغرافية.. إلى غير ذلك من الخطابات الشعرية والنثرية.
و – ولعل هذه الطبيعة المراوغة -مرة أخرى- كانت وراء صعوبة التعامل مع جنس الرحلة خاصة أن هذه الأخيرة تعد جذر النص، وهي، في نفس الآن تعاني من التهميس الذي -كما سبقت الإشارة- طال المتن الرحلي قراءة وتأويلا.
3 – ولا يقتصر السفر على فعل الارتحال ماديا، بل إن السفر يعاد إنتاجه على مستوى الكتابة. ملايين الناس ارتحلوا دون أن يكونوا رحالات أو رحالين. السفر ارتحال من خلال النص الذي يصبح رحلة جديدة تضيء الرحلة الفعلية السابقة. وبفضل السفر، في الكتابة، يصبح بإمكاننا أن نتحدث عن خصائص نوعية ميزت الرحلة عن غيرها مثل طغيان الوصف النابع من رحم السرد، إن لم يكن خادما له، فضلا عن خصائص جمالية متعددة أنتجت السارد الجوال Le Narrateur ambulant الذي يتجول بسرده في كل الأمكنة، مستخدما السرد الموقعي [ الطوبونيمي ](6) الذي يتجاوز “الطوبونيميا” الشائعة ما دامت الرحلة تعيد صياغة أسماء الأماكن، رؤية ومعجما، بآفاق متنوعة. وهناك خصائص أخرى سيأتي الحديث عنها لاحقا.
السفر، أخيرا، ينتج لنا، عن طريق الرحلة، ما أسميته بـالصورة السردية، أو الفعل الوصفي السردي(7)، استنادا إلى أن المكان، أي مكان، لا يخضع للثبات، بل يحمل، في صلبه حركيته الزمنية المرئية وغير المرئية، مما يفتح حوارا -على مستوى تفاعل الأمكنة- خصبا بـ”الهنا” و”الهناك”. الرحلة أخيرا، وليس آخرا، حكاية سفر، تعكس تجربة ذاتية غنية وإن لم تتجاوز الرحلة فضاء حجرة ما.
4 – ولما كان السفر -كما سبقت الإشارة- معيارا تصنيفيا، فإن هذا الأخير [السفر] يسمح بتدعيم خصيصة الأدبية في الرحلة. ولعل كثرة التسميات للارتحال تعود إلى هيمنة السفر من جهة، وإلى التميز النوعي من جهة ثانية. الرحلة -بناء على ذلك- جنس متكامل يوجد في أعلى الهرم، ثم تأتي بعد ذلك أنماط الكتابة الرحلية المشتركة مع الجنس في مكون السفر، والمختلفة معه، من ناحية أخرى، في طريقة الكتابة أو السرد. فـ”النزهة” تختلف عن الدليل، وهذا الأخير يختلف عن يوميات [دفتر] السفر، ومن الطبيعي أن تختلف نصوص “المسالك والممالك” -بالرغم من توفر مكون السفر- عن النصوص السابقة، وهذه النصوص، بدورها، تختلف عن الحَرْكَة -بتسكين الراء- التي تكون خاضعة لـ”السلطة المخزنية” عوض أن تكون خاضعة لـ”سارد” الحَرْكَة.. الخ.
5 – من عناصر الأدبية في النص الرحلي، انتماؤها إلى الكتابة البصرية، سواء بالمعنى “التشكيلي”، أو بالمعنى الأدبي ما دام النص الرحلي عبارة عن صور متلاحقة في الزمان والمكان.
في المستوى الأول نجد اهتمام الرحالة بالتخطيط والتشكيل انطلاقا من الخارطة الجغرافية، مرورا برسومات المزارات والأماكن المقدسة أحيانا، وتخطيطات أو رسومات للتقنيات الحديثة من بواخر [ بابور البحر] وقطارات [ بابور البر] وصناعة حديثة تعلقت أساسا بصناعة الأسلحة والمعدات البحرية، ولم يجد الرحالة حرجا في دعم مشاهداته بهذه الرسوم التي قد تفتقد جانبها الجمالي ما دام الهدف هو الجانب المنفعي أو الاستفادة العملية من تجارب جديدة(8).
أما المستوى الثاني فيتعلق بـالصورة الأدبية التي قد تصل أعلى مراحلها الجمالية في نصوص محددة حملت على عاتقها تقديم لقطات رائعة يكتب فيها الرحالة بـ[ المكان ] عوض أن يكتب عن المكان. ويدخل في ذلك رحلات الصوفية(9) وتجارب المعاناة الخاصة المبنية على شحذ الذات بأقصى مراحل الانفعال والتفاعل مع تجربة السفر(10).
وبالمقابل نجد الصورة الأدبية، في أغلبية الرحلات، قائمة على الجانب الوظيفي. أو بعبارة أخرى: لا يهدف الرحالة من تقديم صور المرئيات والمشاهدات الغاية الجمالية، بل يهدف إلى تقديم المعرفة بصورة المكان. ولو رجعنا إلى العديد من نصوص المتن الرحلي، التراثي والمعاصر، لوجدنا أن طبيعة الصورة قد لا تحتفل بالبلاغي، وهو يظل حبيس الافتتاح والاختتام في النص التراثي، إلا في حدود ضئيلة مما قرب أسلوب الكتابة من “تقنية” التقرير الأقرب إلى وصف من “درجة الصفر”(11). أما بالنسبة للرحلات الحديثة، فالجانب المعرفي يظل واردا مع التركيز الدائم على تقريب الصور المجردة إلى ذهن القارئ وتحويلها إلى صور ملموسة يحاول القارئ استيعابها بأساليب التشبيه، والوصف المقارن وضرب الأمثال.
6 – ومن خصائص الكتابة الرحلية تقديم الخلفية الأركيولوجية للموصوفات. فالرحالة، عادة، لا يكتفي بتقديم المرئي أو [الآني]، بل ينطلق من الموصوف المباشر، بواسطة حركة ارتدادية تسترجع تاريخية الموصوف وتحولاته، ومن ثم، فالرحالة لا يتردد في الحفر في المكان من جهة، وفي -من جهة ثانية- النصوص [ الرحلات ] التي عالجت هذا المكان(12).
والكتابة الأركيولوجية، لا تظل حبيسة الماضي، على أهميته، بل إنها تعيد صياغة هذه الأمكنة بـ”طوبوغرافية” جديدة تهدف إلى استكمال الصورة.
7 – تقودنا كل من الخصيصتين السابقتين إلى خصيصة ثالثة يمكن وصفها بالطابع الديداكتيكي، للرحلة. ذلك أن هذه الأخيرة تنطلق من قانون أساسي يتمثل في فعالية النص الرحلي في التحول والتحويل أيضا. التحول يتجسد في انتقال الرحالة من وضع إلى وضع مغاير فكريا وسلوكيا وأخلاقيا. ومن المؤكد أن الرحالة -أي رحالة- يتأرجح، قبل الرحلة وأثناءها أو بعدها، بين أن يكون، على حد تعبير “تودورف Todorov” مثل الآخر، أو أن يكون الآخر مثل الرحالة(13). وبين هذين الحدين يمتلك الرحالة تجربته الغنية التي حولته من الجاهل إلى العارف، ومن المعلم إلى المتعلم، وبالتالي إلى مرسل جديد يعيد صياغة إرساليته نحو متلق يجهل عالم الرحلة بمختلف مستوياته. أما بالنسبة للتحويل فيتعلق الأمر بإخضاع المرئيات إلى مادة قابلة للتداول أو التلقي. ولاشك أن عملية التحويل، المشار إليها أعلاه، تقتضي إيجاد صيغ ملائمة للتواصل سواء على مستوى الموضوعات أو الصيغ الجمالية والأسلوبية.
والتحويل، في نهاية الأمر، جعل تجربة السفر تجربة معيشة ينتقل، بفضلها المتلقي، إلى عوالم الرحلة وفضاءاتها.
8 – استطاعت الرحلة أن تحقق -سرديا- تضافر مكونات الخطاب السردي الصادر عن مواقع ثلاثة:
*السارد [شخصية مركزية]
*السارد [منتجا للسرد]
*السارد [ضميرا مفردا يدل على ضمير الجمع].
في المستوى الأول نجد حضور الشخصية المركزية الساردة من بداية النص إلى نهايته. ومن الضروري أن نلفت النظر إلى أن بعض أنماط الرحلة -الرحلة السفارية أو الديبلوماسية على سبيل المثال- لا تتردد في نسبة الرحلة إلى ساردها بالرغم من وجود “شخصية” صاحب السفارة أو رئيس الوفد المسافر إلى الخارج. وعادة ما يكتفي السارد -الشخصية المركزية- بالإشارة إليه، باسمه الصريح، في ثنايا الديباجة الافتتاحية للرحلة، أو -من ناحية أخرى- بإدماجه -كما سيتضح بعد قليل- تحت عباءة ضمير الجمع في الحل والترحال(14).
إن حضور الشخصية المركزية في المتن الرحلي يرتبط -فضلا عن المساحة القولية العريضة- بدوره في صنع أحداث الرحلة، وتنظيمها في مسار معين، وبالإضافة إلى ذلك، فمركزيتها تعود إلى دورها في التأويل من جهة وتوزيع مناطق الكلام والحدث [ الفعل ] على باقي الشخصيات المرافقة للرحلة، من جهة ثانية. والشخصية، في الرحلة، لا تتردد، في بداية النص، في التعريف باسمها ولقبها وموطنها وتاريخ خروجها والأداة المستعملة في الارتحال..الخ. وبالمقابل، تكشف هذه الشخصية عن المرافقين لها بأسمائهم وألقابهم وأوضاعهم المادية والمعنوية ووظائفهم داخل الرحلة، كما أنها -من جهة ثانية- لا تتردد في الكشف عن متلقي الرحلة والمحفزين -وهم من المتلقين أيضا- على كتابتها من أصدقاء ومقرظين وسلطة مخزنية.
قد تكون هذه الصورة مستوحاة من الرحلات التراثية -الرحلة المغربية في القرن 19 على سبيل المثال- غير أن خطاب الرحلة عامة، قديما وحديثا، ينحو هذا المنحى في الجوهر مع تغيير طرائق التعامل مع المعطيات الأتوبيوغرافية -والبيوغرافية أيضا- بأساليب حديثة تستفيد من إمكانيات السيرة الذاتية -والغيرية- في تقديم هذه التجربة.
ولا شك أن هذا الاهتمام -من قبل الشخصية المركزية- بمرجعية المشاركين في إنتاج الرحلة يعود إلى جوهر الخطاب في المتن الرحلي، هذا الخطاب الذي يحرص سارده على قول الحقيقة ولو كانت غير حقيقية! والحقيقة هنا تنطلق من رؤية السارد من جهة، كما أنها تعود إلى كيفية الرؤية عند المتلقي أو المسرود له. هل أخطأ “ابن بطوطة” عند وصفه لقاعدة الأهرامات بأن جعلها قاعدة مخروطية؟ الجواب يكمن في كون رؤية الرحالة للهرم -وهو حقيقة لا جدال فيها- انطلقت من تداخل البصر والبصيرة، أو النظر والتأويل القائم على معطيات الواقعي أو الحقيقي.
هذا الهاجس التوثيقي [ الحقيقي ]، مرة أخرى، هو الذي كان وراء المكون الرحلي -على اختلاف الكتابتين- في رواية صنع الله إبراهيم نجمة أغسطس أثناء توثيقه أو تقديمه لتحقيق متكامل عن السد وملابساته بحثا عن الحقيقة وبواسطتها أيضا.
الشخصية المركزية، إذن، في الرحلة هي القَيِّمَة على إنتاج القول، قبل الرحلة وأثناءها وبعدها في نهاية الأمر. في المرحلة الأولى ترجع هذه الشخصية إلى مرجعيتها الواقعية والنصية من خلال من سبقها من الرحالة. ولعل هذا ما يفسر إلحاح الرحالة اللاحق على الإحالة على الرحالة السابق. والأمر لا يقف عن حدود الاستفادة العادية أحيانا، أو التخلص من مأزق -أثناء الارتحال- مفاجئ أحيانا أخرى، بل إن الأمر يتعدى ذلك إلى اكتساب شرعية الانتساب، من قبل الشخصية المركزية، إلى سلطة مرجعية ثقافية تمنح الشخصية المركزية مصداقيتها وقوتها الرمزية.
يطلق إدوارد سعيد على هذه العلاقة السلطة الترميمية التي تقدم لنا جزئيات الصورة المرئية من خلال زوايا الرؤية للرحالة السابقين واللاحقين. فرحلة لامارتين تمت عبر شاتوبريان، وابن بطوطة استفاد من ابن جبير، والعمراوي، والصفار أحالا على الطهطوي…الخ(15).
وبالإضافة إلى هذا وذاك، تصبح الشخصية المركزية، في الرحلة، معبرة عن اهتمام النخبة خاصة، والمجتمع عامة، بإشكالات محددة. فاهتمام الرحالة السفاريين [ الديبلوماسيين ] بموضوعات محددة، في القرن 19، مثل السلاح والنظام والقوة والجمال والتحديث.. لم يكن مجرد صدفة، بل كان نابعا من اهتمام المرسل والمرسل إليه معا.
في المستوى الثاني -السارد المنتج للسرد- نجد هذا الارتباط البدهي بين المستوى الأول والمستوى الحالي. ومن ثم فإنتاج السرد يخضع لخصوصية السارد سواء من حيث مرجعيته الثقافية عامة، أو من حيث “تقنية” الكتابة أو السرد. ومن ثم، فالسارد، في الرحلة، يمتلك “استراتيجيته” الخاصة أثناء تقديمه للمرئيات. وبالرغم من امتلاك العديد من المرتحلين لقواسم سردية مشتركة، في مرحلة معينة، فإن طبيعة السرد عند كل رحالة، على حدة، تظل خاضعة لهذه الاستراتيجية، أثناء استخدام الرحالة للمكتوب والبصري، المكتوب واللهجي، الأليف وغير الأليف، الشرعي والوضعي، الأدبي وغير الأدبي(16). فالحديث، مثلا، عن “باريس” لم يكن خاضعا لرؤية سردية متطابقة. فهي عند “الشدياق” [مثوى للأبالسة](17)، وهي عند “العمراوي” [جنة النساء وجهنم الخيل ](18). أما بالنسبة لـ[ الجعايدي ] فهي كالتالي:
أباريس إن كانت على الأرض جنة = فأنت هي المأوى على رغم حاسد
فما تشتهيه الأنفس من كل رائـق = كثير بها لكنه غير خالـــــــد(19).
فالفرق شاسع بين “الموقف الانتقامي الساخر” عند “الشدياق”، وبين موقف “المتعة أو الغواية المتعبة أو الصعبة” عند العمراوي من جهة، و”المتعة الفانية” عند “الجعايدي” من جهة ثانية.
الاختلاف والائتلاف، سرديا، قد يسمح لنا مستقبلا، بالحديث عن “مدرسة سردية متكاملة” في الكتابةالرحلية، خاصة أن نصوصا رحلية عديدة من القرن 19 على سبيل المثال -في الأدب المغربي الحديث، امتلكت خصائص سردية متقاربة، قربتها من الكتابة النمطية إلى الحد الذي اعتبرها بعض الباحثين مجموعة من التقارير عن أسفار محددة.
نأتي، أخيرا، إلى المستوى الثالث من إنتاج السرد، مستوى الضمائر. ومن الطبيعي أن يتكامل هذا العنصر مع العنصرين السابقين استنادا -كما سبق القول- إلى الخطاب الحقيقة.
الضمير في الرحلة ضمير مفرد بالرغم من استعمال الرحالة لضمير الجمع في مواقع محددة. والرحلة، عادة تتأرجح بين الضميرين، دون أن يمنع ذلك من التأكيد على فردانية المتكلم. وطبيعة هذا الاستعمال تعود إلى:
+الملكية الرمزية -بواسطة الضمير المفرد- للنص، بعد أن سطر الرحالة ملكيته المادية -عن طريق اسم العلم الحقيقي- في ديباجة النص من جهة، ونهايته من جهة ثانية.
والبداية والنهاية تنتميان إلى [خارج النص]، أما المتن فهو ينتمي إلى داخل النص مما اقتضى وجود “ملكية رمزية” مغايرة.
* وفي حالة استعمال ضمير الجمع، فالهدف الواضح من ذلك هو إشهاد الآخر، أو المرافق للرحالة، على ما يروى، خاصة أن قسما كبيرا من هذا المروي قد يدخل في الغريب والعجيب وغير ذلك من المستويات الصبعة القابلة للأخذ والرد من قبل المتلقي.
* يتميز ضمير المفرد، وضمير الجمع أيضا، بانتمائه إلى الحقل الصوتي المترجم إلى كتابة. فالأصوات الواردة في الرحلة، مفردا أو جمعا، لا ملامح لها -سواء على المستوى الجسدي أو النفسي- كما أنها أصوات يكتفى، في تقديمها، بالصياغة النحوية المجردة. وفي حالة وجود صياغة سردية معينة تعكس موقفا محددا، فإن ذلك يتم لصالح الصوت المفرد، صوت الرحالة.
ومن الخصائص المميزة لهذه الأصوات، في الرحلة، حضورها على قدم المساواة بين الأموات والأحياء. ومن ثم حضرت أصوات الرحالة السابقين [ابن جبير/ابن بطوطة/الطهطاوي.. الخ] بجانب الذين التقاهم الرحالة من رواة الأمكنة المرتحل إليها. وحضر الصوت المنسوب إلى ضمير الغائب الذي لا هوية له بجانب الصوت الحامل للاسم الصريح(20).
9 – إن الأدبية، بهذا المعنى، محاولة للبحث في معمارية الرحلة بحكم أن هذه الأخيرة لم يتم الاهتمام بصياغتها السردية إلا في مرحلة متأخرة، من جهة، كما أن مقاربتها، من هذا الموقع، لم يتعد الإشارة الشكلية السريعة، من جهة ثانية. وظل -من جهة ثالثة- الاشتغال في هذا السياق منصبا على القول، عوض كيفية القول، أي على المضامين قبل الأشكال أو البناء الفكري والجمالي للرحلة.
10 – ولا شك أن تحليل الجانب المعماري للمتن الرحلي يستند إلى هذا المفهوم، مفهوم الأدبية، المرن الذي يسمح للباحث بالالتفات إلى خصوبة المتن الرحلي. تلك الخصوبة القائمة على كون الرحلة من النصوص المهجنة -بالمفهوم الباختيني-(21) التي تتزامن فيها، توازيا وتقاطعا، أنماط وأجناس من الكتابة الأدبية وغير الأدبية، حكايات ومرويات وفتاوي وخرائط ورسوم، وصيغ مقالية ومحطات سردية وأصوات متعددة.. الخ. كل ذلك تحت الهيمنة “الفعلية” لـ”بنية السفر” -كما سبقت الإشارة- القادرة على “توليف” الأنماط السابقة من جهة، وخلق خصائص سردية، من جهة ثانية، تعيد الاعتبار للرحلة من حيث كونها حكاية سفر، قبل أن تكون خطابا جامعا مانعا لكل المعارف والعلوم والمتع ما عدا متعة السفرn
هوامش:
1 – وهذا ما عالجه الشكلانيون الروس، أثناء حديثهم عن الأجناس الأدبية في سياق طرح علاقة الوظائف بالأشكال عبر علاقات التفاعل بين المنظومات المختلفة. انظر:
Ducrot/Todorov: Dictionnaire Encyclopédique des sciences du langage, coll.points, 1972, p.193.
2 – على سبيل المثال يتم الحديث عن الأدبية نسبة إلى الأدب أحيانا، وفي أحيان أخرى تخضع “الأدبية” لمفهوم الأدب السائد في مرحلة محددة، أي تصبح معيارا لا رجعة فيه. والواقع أن الأدبية تعني الشعرية [بويطيقا] كمنهج لدراسة النص سواء كان أدبيا أو غير أدبي.
3 – عبد الرحيم مؤدن: أدبية الرحلة، دار الثقافة، 1996.
4 – انظر: عبد النبي ذاكر: المحتمل في الرحلة العربية إلى أوروبا وأمريكا الشمالية والاتحاد السوفياتي. دكتوراه الدولة تمت مناقشتها بكلية الآداب بأكادير (1998) تحت إشراف سعيد علوش.
5 – عبد الفتاح كيليطو: المقامات، ترجمة عبد الكبير الشرقاوي، دار طوبقال، 1993، ص127.
6 – P.Hamon: L’analyse du descriptif, Hachette, 1981, p.10.
6 – أدبية الرحلة، م.م، ص36.
7 – نفسه، ص28 وما بعدها.
8 – يمكن الرجوع، إلى نماذج من هذه الرسوم عند “الغيغائي” و”الجعايدي” و”الصفار”.. للتدليل على ذلك. انظر: عبد الرحيم مؤدن: مستويات السرد في الرحلة المغربية خلال القرن 19، دكتوراه الدولة [نوقشت بالرباط، 1996 تحت إشراف أحمد الطرايسي أعراب ].
9 – المنقذ من الضلال للغزالي.
10 – وهي رحلات عديدة مثل: الرحلة الأخيرة لهشام شرايبي/ دفاتر سراجيفو لخوان غوتيسولو..
11 – المحتمل في الرحلة العربية، ص507.
12 – يندر ألا نجد هذه الإحالات المرجعية في رحلة من الرحلات الشائعة.
13 – تودوروف: (الرحالة الحديثون)، ترجمة حسن الشامي، مجلة الكرمل، ع.35، 1990، ص.ص199-203.
14 – انظر على سبيل المثال:
أ – محمد الكردودي: التحفة السنية للحضرة الحسنية بالمملكة الإصبنيولية م. الملكية، الرباط، 1963.
ب – محمد بن ادريس العمراوي: تحفة الملك العزيز بمملكة باريز، تحقيق وتعليق، زكي مبارك، م.التغليف والطباعة والنشر والتوزيع
للشمال، 1989.
ج – محمد بن الطاهر الفاسي: الرحلة الإبريزية إلى الديار الإنجليزية، تحقيق وتعليق، محمد الفاسي، المطبوعات الجامعية،
الرباط 1967.
15 – إدوارد سعيد: الاستشراق، المعرفة، السلطة، الإنشاء، ترجمة كمال أبو ديب، ط.3، ص190, 1993.
16 – وهناك تقنيات عديدة مثل الاستباق أي تقديم ما لم يحدث بعد، والاستلحاق أي إدماج نص لاحق بنص سابق بعد الانتهاء من الرحلة فضلا عن صيغ أخرى. انظر: مودن عبد الرحيم، مستويات السرد، م.م، الباب الثاني من الأطروحة
17 – أحمد فارس الشدياق: الساق على الساق فيما هو الفرياق، مكتبة الحياة: بيروت، 1960، ص635.
18 – العمراوي، م.م، ص93.
19 – محمد بن ادريس الجعايدي: إتحاف الأخيار بغرائب الأخبار، رسالة مرقونة، دراسة وتحقيق. عز المغرب معنينو، ص161-162، 1990.
20 – يستعمل الرحالة القول المنسوب إلى ضمير الغائب دون تحديد هوية القائل خاصة في الموصوفات العجيبة والغريبة، أو التي قد تثير شكوك المتلقي وعدم اقتناعه.
21 – يقول باختين: الجنس الأدبي لا يحتفظ بنقائه من حيث كونه يجمع بين عدة أجناس أدبية دفعة واحدة. انظر: محمد برادة: الخطاب الروائي [باختين ]، دار الأمان، الرباط، ص28، 1987.
مطارحات نقدية ودراسات أدبية
الكاتب: أدب الرحلة تاريخ الإنشاء: 2 مارس
المصدر: