رحل عن هذه الحياة الباحث والمبدع الدكتور عبد الرحيم المؤذن يوم 27 يوليوز 2014 بهولندا، حيث كان يخضع للعلاج. السِّجِلُّ الثقافي له حافل ومتنوع. فقد جمع بين البحث الأكاديمي والإبداع، بما في ذلك الكتابة للأطفال والكتابة المسرحية. ويبدو أن هذا السجل كان سيزداد، كما ونوعا، لو لم يضع الموت حدا لحياته.
وعبد الرحيم المؤذن رائد، على الصعيد المغربي، في مجال المعجم النقدي. كتابه “معجم مصطلحات القصة المغربية” المنشور سنة 1993 دليل على ذلك. وكان قد اهتم بهذا النوع من المصطلحات قبل هذا التاريخ. فقد تضمنت مجلة دراسات سيميائية أدبية لسانية سنة 1988 (عدد 3، صيف-خريف 1988) موضوعا عنوانه هو:”مصطلحات القصة في المغرب”. أهمية هذا المعجم تتجلى فيه أولا، وفي الجهة التي قامت بنشره ثانيا، فهو من منشورات دراسات. سال، التي كان يشرف عليها الباحثان حميد لحمداني ومحمد العمري. وقد كانا يشرفان على المجلة المتميزة “دراسات سميائية،أدبية، لسانية”. مجلة كان لها دور مهم في ترسيخ الحداثة النقدية في المغرب ومواكبة جديد النقد الأدبي.
موضوع المعجم محصور في القصة المغربية. كانت البداية بتحديد مفهوم القصة ذاته الذي لاحظ الباحث تعدد معانيه لدى الأدباء المغاربة، فقد “اتخذ مصطلح قصة دلالة فضفاضة على مستوى التصنيف. فالقصة، بناء على ذلك قد تماثل “القصة القصيرة” كما هو شائع-والأمر مازال شائعا إلى الآن-في مجلات وصحف الأربعينات والخمسينات من هذا القرن. وقد ترادف المسرحية، وقد يصبح المصطلح دالا على معنى الخبر المروي من قبل سارد معين، وقد يرادف-في الكثير من الكتابات-الحكاية، وقد يماثل هذا المصطلح، في كثير من الأحيان، الرواية”. ولأنه ينطلق من النصوص، فقد قدم عن كل دلالة مثالا من الأدب المغربي منذ أربعينيات القرن العشرين.
يجد قارئ هذا المعجم تحديدا لكل مصطلح على حدة مصحوبا، في الهوامش، بمثال أو أمثلة نصية عن كل مصطلح. هذا، مع تحديد السمات البنيوية الداخلية الخاصة به. كان ذلك استنادا إلى ثقافة نقدية كانت هي أساس النظر في تلك المصطلحات. كل ذلك كان بلغة شديدة الكثافة والتركيز، دون إطناب أو حشو، واعتمادا على المجهود الذاتي. من بين المصطلحات الموجودة في هذا المعجم مصطلح “القصة القصيرة جدا” الذي شاع استعماله اليوم.
قبل تحديد المصطلحات الخاصة بالقصة المغربية، كتب المؤلف تقديما تحدث فيه عن مصادر المعجم ومرتكزاته، وختمه ب”بملاحظات أساسية”. أشار المؤلف إلى “أهم المصادر” التي اعتمد عليها من أجل كتابة هذا المعجم. من هذه المصادر “الصحافة المغربية على اختلاف أنواعها واتجاهاتها الفكرية والسياسية والأدبية”. من هذه الصحافة “التي كانت ممالئة للاستعمار بشكل مباشر أو غير مباشر”. من الصحافة التي كانت ممالئة لهذا الأخير جريدة “السعادة” وجريدة “القيامة” لسان حال الطرقية بالمغرب حسب ما ورد في أحد هوامش الكتاب.
من تلك المصادر أيضا “المجلات والنشرات المختلفة الصادرة عن مؤسسات إعلامية (راديو المغرب على سبيل المثال) أو مؤسسات الدولة (وزارة الشبيبة والرياضة/مجلة الشرطة/وزارة الثقافة والتعليم الأصلي والعالي والثانوي) أو المجلات الصادرة عن وزارة الشؤون الثقافية على اختلاف أسمائها ومراحلها مثل “دعوة الحق” والثقافة المغربية…”.هذا إضافة إلى “المجاميع القصصية، والنصوص الروائية، والكتابات السردية بصفة عامة”.
هذه المصادر، على اختلاف أشكالها وأنواعها، تنتمي إلى زمنين مختلفين، هما زمن الحماية وزمن الاستقلال. وهذا يدل على المجهود الذي بذله الباحث من أجل ذلك الإعداد، إذ لابد من البحث عن هذه المصادر أولا، وهذا ليس أمرا سهلا، ثم قراءتها واستثمارها من أجل ذلك الإعداد. وقد حرص المؤلف على الإشارة في التقديم إلى الموضوعية، ذلك أنه لم يميز “بين منبر وآخر بناء على موقف مسبق”. كما أنه لم يخضع “لأحكام قيمة مسبقة”فيما يخص المجاميع القصصية والنصوص الروائية والكتابات السردية. إنها مواصفات الباحث الجاد والمجتهد الذي ينطلق في بحثه من مادة البحث نفسها وليس من مواقع أصحابها أو من العلاقات الشخصية أثناء الكتابة والتحرير. فكانت النتيجة أن حاز معجمه قيمة معرفية، التي لولاها لما أقدمت الجهة الناشرة للمعجم على نشره.
باختصار، لقد قدم الراحل عبد الرحيم المؤذن (أو مودن) خدمات جليلة للثقافة المغربية، بفضلها سيظل هذا الاسم راسخا في تاريخ هذه الثقافة التي خدمها بإخلاص وتفان إلى آخر رمق في حياته. ولم يجعل اجتهاده، ومنه إبداعه الأدبي، وسيلة للحصول على مغنم أو منصب أو حُظوة. الأسابيع الأخيرة في هذه الحياة، بعد مرضه، بالغة الدلالة. إنها ضريبة الحرية. لقد كرس حياته خدمة للثقافة المغربية ووطنه المغرب، فماذا قدم له الوطن بعد المرض؟.