الكاتب عبد الرحيم مودن تاريخ الإنشاء
أ- من الأخطاء الشائعة- إن لم تكن مغالطة مقصودة- في التعامل النقدي المتداول الحديث عن النص القصصي- بالتعريف- عوض الحديث عن نص قصصي يختلف باختلاف الأمكنة والأزمنة ، من جهة، والمرجعية الثقافية من جهة ثانية. فالنص لا يأخذ شرعيته إلا من الثقافة التي ينتمي إليها{1}.
ب- وهذا الترويج للقصة-تعريفا- يخفي منظورا استعلائيا يهدف للسيطرة على الآخر، الموازي أو المتقاطع، مع هذه المعيارية.
ج- ومن ثم تحولت هذه المعيارية الأدبية إلى مركزية جديدة تناظر المركزية الاقتصادية والسياسية المهيمنة.
د- واستنادا الى ذلك تروج هذه المعيارية لقصة قصيرة بالمفرد عوض الجمع، علما- كما جاء على لسان ابن قتيبة- أن “لبلاغة لم يقصرها الله على زمن دون زمن”. فالحديث عن القصة القصيرة حديث عن تجربة محددة ، فى مكان معين، وزمان معين، في الوقت الذي تتوازى فيه، وتتقاطع، مع ما لاحصر له من التجارب في أنحاء العالم.فالعديد من الموضوعات، أو القضايا، تعبر عنها الإنسانية بعشرات الأساليب والصيغ والطرائق.
ذاكرة النص
1.المفهوم: إذا كان السرد( الحكي) نزعة فطرية لدى الشعوب والحضارات المختلفة، فإن المنطقة العربية لم تشذ عن ذلك، وستزداد غنى خصوبة بمجيء الإسلام. السرد، إذن، ممارسة طبيعية في التاريخ البشري، دون أن يمنعنا ذلك من الحديث عن دلالات السرد – بعيدا عن الدلالة اللغوية المباشرة-التي استوت في صيغ محددة شكلت بنيات فكرية، وحكائية، قائمة بذاتها.
أ- الخبر: وهو أصل القص. وهو لايقتصر على نقل الأحداث والوقائع، بل يمتد إلى الأشخاص والأماكن والأزمنة. في المستوى الحدثي نجد أخبار العرب، وأيامهم، فضلا عن الأحداث التاريخية المتعلقة بالأفراد والجماعات. وفي المستوى الثاني نجد أخبار الملوك والشجعان والعشاق والحمقى، وأخبار النساء والرجال من عامة الناس{2}. ومن الخبر، خرج الأخباري-بالفتح- الذي اتهم بالتزيد في الأخبار، بعد أن أصبح (الخبر) معادلا للتاريخ، أي معادلا للحقيقة.
2. القص: من المؤكد؛ أن جزيرة العرب لم تكن أرضا خلاء من القص المتداول – شفهيا- حكايات وخرافات وأساطير وأمثال ووقائع مختلفة. ( فالذاكرة الجماعية لأي شعب من الشعوب تتجاوز نطاق ماهو فردي وتحتفظ بتراثها الأسطوري في مختلف “مؤسساتها الإجتماعية”، وضمن العناصر التي تشكل ذاكرتها الجماعية أي في اللغة….. كما أن الأسطوري والعقلاني وجهان متكاملان من أوجه نشاط الفكر الإنساني){3}.
في المعجم العربي؛ صار {القاص} راوية للأخبار شفاهة أو كتابة{4}. وظل القص مخلصا للخبر؛ بل ظل أقرب إلى التواريخ والأخبار منه إلى الفن محافظا على أساليب الإسناد والرواية؛ حريصا على ضبط صحة المتن. وعلى هذا الأساس ارتبط القص بإعادة إنتاج ماهو متداول- دون التفريط في المتعة والامتاع- من خلال مستويين:
أ- مستوى الرواية التي يمارس فيها القص الحكي عبر مرجعية متداولة. ومن ثم فهو مجرد وسيط؛ أو راو؛ بين الحكاية والمتلقي.
ب- مستوى الإبداع؛ أو الخلق؛ الذي يبدع فيه القاص الحكي من بنات أفكاره، متماهيا مع شخصياته وأحداثه. فالقصاص هو( أن يفعل بالفاعل مثل ما فعل){5}. وفي الحالتين؛ تحضر ذات القاص بنسب متفاوتة سواء تعلق الأمر بالقاص المحترف؛ أو تعلق ذلك بالمتكلم تبعا لطبيعته؛ من ناحية؛ ولوضعية المتلقي من ناحية ثانية؛ ولوظيفته من ناحية ثالثة.
وفي العصر الحديث أصبح مصطلح القص دالا على( الروايات والقصص القصيرة كما تحتوي الدراما والملحمة والخرافة الأخلاقية وقصص الجان وحكايات الفولكلور…. وتعتبر السيرة الذاتية وترجمة الحياة والمقالة وبعض الكتابات التاريخية غير قصصية ولكن هذه الأنواع جميعا تحتوي في أغلب الأحوال على مكونات قصصية قوية) {6}.
الإسلام والقص
ذكر القص؛ في القرآن الكريم؛ العديد من المرات؛ وبدلالات مختلفة على الشكل التالي:
أ- دلالة الجمال والمتعة والإمتاع ورفض القبح. فليست كل القصص قابلة للحكي؛ بل إن ذلك يقتضي انتخابا من جهة؛ ومراعاة لمقتضى الحال.( نحن نقص عليك أحسن القصص). سورة يوسف.
ب- والدلالة الثانية تعني تقديم الخبر اليقين الذي لايطوله الشك.( نحن نقص عليكم نبأهم بالحق) سورة الكهف.
ج- التقصي وتتبع الأثر(وقالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون).القصص.
د- التفريق بين القصص المزيف والقصص الحق(إن هذا لهو القصص الحق)آل عمران.
ه- الموعظة والتدبر(فاقصص القصص لعلهم يتفكرون) الأعراف. (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب) يوسف.
و- التأثير المعنوي على المتلقي ودور القص في مواجهة الشدائد(وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك)هود. ومن الطبيعي أن يتحول المسجد إلى فضاء- فضلا عن دوره الديني- للقص. فبجانب العالم والواعظ وجد القاص الذي انقسم إلى قسمين:
1- القاص المحترف الذي اتخذ القص مهنة.
2- القاص غير المحترف الذي وظف القص في سياقات علمية ووعظية وأدبية وتربوية .
القاص؛ إذن؛ منتج لخطاب معين، يقتضي توفر خصائص محددة تدور حول الحكاية، ولاترضى عنها بديلا.
ولما كان الخبر أصل القص، أو الحكي، فإن طبيعته المرنة تسمح باتخاذ صيغ حكائية عديدة نابعة من رصيد الثقافة التي ينتمي إليها في علاقتها بالذات ، والآخر، الداخل والخارج.
وشكلت مرحلة النهضة العربية الحديثة- خلال القرن 19- ميدانا فسيحا للسؤال حول طبيعة الخطابات المتداولة – ومنها الخطاب القصصي- ومدى ملاءمتها للإنسان والمجتمع عربيا وإسلاميا.
الخاص والعام في القص
لعله من نافلة القول التأكيد على رفض الحكاية لجواز السفر. فهي تنتقل مع الهواء، وتتسرب من المسام، وتسيل مع الوديان والأنهار والغدران. ومن ثم فالحكاية ذاتها قد نجدها في قرية مهمشة، وقد نجدها في بغداد العامرة. كما أن شخصية قصصية تأخذ أبعادها الدلالية من تفاعلات المجتمع الإنساني، عبر وسائل عديدة- مادية ورمزية- تمنح لهذه الشخصية ملامحها المحلية تبعا لطبيعة المجتمع وأسئلته المختلفة .ف” بينيلوب” عند “هوميروس” لاتختلف _ من حيث الدلالة- عن ” هينة” في الحكاية الشعبية. ف( الغول) جوهر واحد ، سواء تجسد في الطامعين في السلطة( بنيلوب) أوتجسد في الحيوان الخرافي –في الحكاية الشعبية- الذي يدمر الحرث والنسل. والفارق النوعي يكمن في طبيعة المحكي الذي يخضع لعملية تحويل نابعة من ذاكرة الحكي التي تحاور الوافد برصيدها الحكائي، عبر أسئلة الماضي والحاضر والمستقبل.وتقدم الأنماط الحكائية التالية بعض ملامح هذا الجدل بين الخاص والعام:
خبر- نبأ- -حديث- قول- رواية- مقامة- رحلة- رسالة-أسطورة- سيرة- مسامرة-طرفة- نادرة- حكاية- لغز- خرافة ــ أحجية-أحدوثة- مستملحة- فكاهة-دعابة- حاشية ــ حكمة- مثل…
هذه الأنماط تنضوي تحت عنوان عريض هو عنوان القص. فالقصة، عند العرب، يضم كل ما سبق، دون أن يمنع ذلك من توفر نوع من الوعي الأجناسي المتداول في الثقافة العربية من القديم. فالعرب صنفت، على سبيل المثال، قصصا قصيرة تصنيفا محددا تعاملت فيه مع الجانب البصري. هكذا أطلقت على هذه القصص: الشبريات نسبة إلى الشبر، أي المساحة القولية المتحكمة في الحكاية. يقول أبودلف الخزرجي: ومن قصص لاسرائيل- أوشبرا على شبر ( انظر: محمد سيد محمد: بين القصة الخبرية والقصة الأدبية. المجلة العربية للعلوم الإنسانية.مج.3.ع، 12.ص.115.)
ولو رجعنا إلى الأنماط ، المشار إليها أعلاه ، لوجدنا أن التسمية الأجناسية نابعة من طبيعة الخصائص المشكلة لهوية النص ودلالاته.لنأخذ الأمثلة التالية، على سبيل التمثيل لاالحصر، من خلال أقوال العلماء والبلغاء التي حددت المثل على الشكل التالي:
أ- (المثل مأخوذ من المثال . وهو قول سائر يشبه به حال الثاني بالأول والأصل فيه التشبيه….والمثال القصاص لتشبيه حال المقتص منه بحال الأول. فحقيقة المثل ما جعل كالعلم للتشبيه بحال الأول كقول كعب بن زهير: كانت مواعيد عرقوب لها مثلا- وما مواعيدها إلا الأباطيل)الميداني. وقال ابن السكيت:(المثل لفظ يخالف لفظ المضروب له ويوافق معناه) وقال إبراهيم النظام:(يجتمع في المثل أربعة لاتجتمع في غيره من الكلام: إيجاز اللفظ وإصابة المعنى وحسن التشبيه وجودة الكناية فهو نهاية البلاغة). وقال ابن المقفع:( إذا جعل الكلام مثلا كان أوضح للمنطق وآنق للسمع وأوسع لشعوب الحديث) {7}.
ب- حديث: خطاب متعدد الدلالات المتوزعة بين الحديث الشفهي العادي حديث العالم والفقيه، بين الحديث النبوي الشريف والمحكي الشفهي في الميادين والجلسات الخاصة( المقامات).
ج- طرفة: وهي الحادثة الواقعية الإستثنائية، وهي، أيضا، الحديث المستحدث العجيب المستحسن(المعجم العربي الأساسي.ص.791.)
د- حاشية: وقد تكون تعليقا، في كتاب، طلبا للإيضاح، وقد تكون وقفة من قبل المؤلف للحكي أو ضرب المثل.
ه- الحكمة: ترادف، في معظم الأحيان المثل. ويلتقيان في أن كلا منهما يدين بالولاء لقصة سابقة حدثت على أرض الواقع، وهما، من ناحية أخرى، يمهدان لحكاية جديدة).
والخلاصة التي نستخلصها مما سبق تتجسد في كون التراث الحكائي، المشار إلى بعض أنماطه أعلاه، ممارسة من ممارسات “الذاكرة الجمعية” التي رسخت أساليب عديدة في الحكي، وقائع وشخصيات واستهلالات {8} وخواتم، فضلا عن استيعاب الذاكرة الحكائية العربية لتراث الشعوب التي دخلت الإسلام من كل فج عميق.
هكذا يصبح الرأسمال الرمزي- ومنه الأدب بكل أشكاله وأنماطه- من تجليات الهوية لشعب من الشعوب، بل إنه محدد مركزي من محدداتها أو مكوناتها.
غير أن هذه الهوية قد تتعرض للخلخلة والإضطراب لأسباب عديدة ، ومنها الغزو الإستعماري، كما حصل في ا لمجتمعات العربية والإسلامية في قرون سابقة. وبالرغم من مغادرة الإستعمار لهذه البلدان، فإن ذلك لم يمنع من استمراره بوسائل الرأسمال الرمزي التي طور طرائقها وأساليبها لغة ومفاهيم وأشكالا أدبية وفنية وأنماطا تعبيرية.
ولو حاولنا الرجوع إلى لحظة الصدام مع الغرب- خاصة في المشرق- لوجدنا أن أهم سؤال من أسئلة النهضة، ارتبط بسؤال التعبير عن الهوية. ومصطلح البعث والإحياء يعكس إحساسا حادا بهذه الهوية المغيبة، أو المدفونة تحت التراب، وهي تنتظر من يزيح عنها هذا السديم.
وبجانب الشعر الذي حظي بنصيب الأسد، في التعبير عن هذه الهوية، وجد النثر الذي خرج من جبته السرد. ولم يكن من قبيل الصدفة أن يكون المكون الرحلي عماد سرد هذه المرحلة المبكرة من أسئلة النهضة العربية (حديث عيسى بن هشام{9}/ليالي سطيح{10}/ الدين والعلم والمال{11}/….فالرحلة تسمح للمرتحل( البطل) بالسياحة في المكان والزمان، وتطرح -من ناحية ثانية- القضايا المختلفة، المرئية وغير المرئية، بأساليب متعددة.
وستمتح القصة القصيرة- في مرحلة لاحقة- من أسئلة النهضة بطريقتها الخاصة المبنية على ماقل ودل، دون أن يمنع ذلك من وجود وعي نظري بطبيعة الجنس الأدبي مرسلا ورسالة ومرسلا إليه{12}.
لاغبار، إذن، على سؤال الهوية: من نحن؟ . فالسؤال طرح جذري لإشكالية التقدم والتخلف التي ما زالت مطروحة إلى الآن. غير أن السؤال ذاته – في سياق الموضوع المطروح- التبس بممارسات فكرية (نظرية) أنتجت عكس ما هو مطلوب من خلال المظاهر التالية:
1- نقد الآخر دون نقد الذات. واتخذ هذا النقد- على المستوى الأدبي- أسلوبين اثنين:
أ_ رفض المستورد بدعوى عدم ملاءمته للذات.
ب- والأسلوب الثاني- وهو مكمل للسابق- يتجسد في الرجوع إلى الماضي الذي لا ينضب، والذي، من ناحية أخرى، يكشف عن ادعاء الآخر لما نملكه نحن. هكذا يصبح ( الشعر الملحمي بمثابة مرحلة غير مكتملة، والمقامة بذرة غير متطورة للرواية، وقصص الفروسية الذي يقرأ على الجمهور، ويقدم بشكل شبه تمثيلي في الساحات العامة، بمثابة محاولة مسرحية مجهضة){13}.
2- وعوض أن ينصب السؤال على طبيعة الجنس الأدبي- وهو القصة في هذا المجال- يتجه إلى الجدل الإيديولوجي جاعلا من الجنس مجرد تعلة لتصفية الحساب مع الآخر من النافذة عوض الباب.
3- والتوجه السليم- في هذا السياق- يقتضي، كما سبقت الإشارة، نقدا مزدوجا للأشكال الأدبية والأنماط القصصية الصادرة عن الذات والآخر في آن واحد.وأهم عناصر هذا النقد، الانطلاق – على حد تعبير عبد الله العروي- من كونية الأشكال الأدبية الغربية التي اتسمت بها، بحكم سيادتها الإقتصادية والسياسية.. غير أن هذه الكونية –أو العالمية- لا تمنع من التأكيد على:
أــــ محاورة أنساقها التعبيرية، وصيغها الجمالية، مادامت ملكا إنسانيا ساهم فيه الكل. فالرواية الأوروبية مدينة – باعتراف الغرب- للمحكي الشرقي في ألف ليلة وليلة، وقصص الشطار وسير الفرسان، وعجائبية العوالم المرئية وغير المرئية والمتخيل الأخروي( الديكاميرون وألف ليلة وليلة/ الشطار والمقامات/ المعري ودانتي..) كل ذلك كان أساس النهضة الأوروبية في القرن الخامس عشر تمهيدا للأشكال الأدبية الملائمة لمرحلة معينة من مراحل التاريخ الأوروبي.
ب- استنبات شكل أدبي ملائم للذات في جدلها مع أسئلة الماضي والحاضر والمستقبل.ومن ثم يصبح الشكل القصصي الملائم نابعا من ذاكرة النص المشكلة من الرصيد الحكائي للأمة، أولا، ونابعا من تحديات الحاضر الذي يقتضي الانخراط، ثانيا، في التجربة الإنسانية، مادامت “لحكمة ضالة المؤمن”، والتوجه –ثالثا- نحو المستقبل، أي التموقع، عالميا، عن طريق التجدر في التربة المحلية، كما هو الشأن في أدب أمريكا اللاتينية ودول آسيا، وبعض دول إفريقيا.
4- ولعل أخطر ما تعانيه الساحة الأدبية ترديد هاتين المقولتين المتناقضتين: مقولة الإنغلاق على التراث ومقولة الإرتماء في الحداثة.في المستوي الأول يصبح الفهم الخاطئ للتراث، الذي جعل منه المبتدأ والنهاية، عائقا من عوائق التطور. وفي المستوى الثاني يصبح التحديث حداثوية شكلية تركز التخلف عوض التقدم. والحال أن التراث “صدقة جارية” تقتضي توظيفه حسب أسئلة المحتاج تبعا للتحديات المطروحة. كما أن الحداثة هي اختبار لأسئلة الهوية في عالم يعج بتعدد الأسئلة والتجارب المختلفة. التراث، قصصيا، غربلة للمكتوب والشفهي في المحكي العربي، والإسلامي، والحداثة، قصصيا، توظيف للفاعل في الذات والواقع، عوض استيراد آخر التقليعات التي وصل إليها الآخر، تبعا لتطوره الطبيعي، عبر خصوصية الأسئلة المطروحة.فإذا كان الأدب قد أصبح، في هذه البقاع، لعبا، مرة، وجهدا إستيطيقيا محضا، مرة ثانية، وأصبح البطل هو “اللابطل’ مرة، والوظفية هي “اللاوظيفة”، مرة ثانية، إذا كان الأمر كذلك- وهو إفراز نوعي لهذه البيئة- فإن الذات العربية الإسلامية ما زالت محتاجة إلى الشخصية/النموذج، وإلى الجهد الإستيطيقي المبلور لموقف محدد، أو قضية معينة… أوبعبارة أخرى: الشكل الملائم لأسئلة مجتمع يملك أسئلته الخاصة، ويتفاعل مع مايجري حوله من قضايا وتحولات وخطابات متعددة.
5- وهذا يقودنا إلى الحديث عن خصوصية المصطلح، وبالتالي خصوصية النص القصصي استنادا إلى ما سبق.
وأهم ما يجب التأكيد عليه، في هذا السياق، هو أن الخصوصية تدين بالولاء لجهد المبدع الذي ( يعيد خلق هذه الأشياء بأوضاع جديدة، لم تكن معروفة في الحياة، أوضاع تتطور فيها الأشياء والموضوعات بقانونها الخاص، وتعبر عن نفسها بدون عائق){14}. هذا أولا. وثانيا، ترتبط الخصوصية بعوامل عديدة نقصرها- فضلا عن المبدع- على عاملين اثنين:
أ- القارئ غير المحترف الذي يملك تصورا ما عن النص الذي يساير” أفق انتظاره”. فالقارئ ليس أرضا خراب، بل إنه يملك رصيدا من القراءة ، في هذا الميدان، سمحت له بالتعامل مع النص ، من مواقع محددة، وصولا الى النص الملائم لذائقته الأدبية، وقيمه الأخلاقية والإجتماعية، وأسئلته الذاتية والموضوعية.
ب القارئ المحترف، ونقصد به القارئ الناقد الذي ينطلق ، بدوره، من “مثل أعلى ” يقترحه على الكاتب بطريقة مباشرة، أو غير مباشرة. وتجدر الإشارة إلى أن الناقد يجسد، في عمقه، مؤسسة متكاملة يتداخل فيها الأدبي بالإجتماعي، والأخلاقي بالإشهاري، والخاص بالعام.
عود على بدء
إشكالية المصطلح القصصي هي، في جوهرها، إشكالية الهوية. ولما كانت الهوة الفاصلة بيننا، وبين الآخر، تزداد اتساعا، فإن ذلك يقتضي منظورا معينا نسائل فيه – كما سبقت الإشارة- الذات والآخر. و أقترح، في هذا السياق، الإستئناس بما طرحه الإقتصادي المصري ” سمير أمين”عن نظرية( التطور اللامتكافئ) للخروج من التخلف، بعيدا عن مركزية الدول المتقدمة. ولن تتمكن الذات من تحقيق ذلك، إلا عن طريق الرجوع إلى إمكاناتها الذاتية في علاقتها بالتحديات المطروحة على كيانها المادي والرمزي.
في المستوى الأدبي، يصبح ( التطور اللامتكافئ) ضرورة لا مفر منها تحقيقا للآتي:
1- الإبتعاد عن اللهاث وراء تناسل المصطلح القصصي الذي قد يساير تحولات الآخر، في حين يقتضي، بالنسبة للآنا، استنباتا جديدا ملائما للذاكرة النصية من جهة، ولأسئلة الحاضر من جهة ثانية. فمصطلح ( القصة) جامع مانع لأنساق سردية عديدة ، وأنماط حكائية متعددة. وهذا اللهاث، من ناحية أخرى، ترسيخ لمركزية الآخر على حساب الذات.
2- ونتج عن ذلك فيض مصطلحي يساير متطلبات الآ خر في التواصل عبر خطابات مختلفة. هكذا تشظت القصة القصيرة لتصبح،مرة، NOUVLETTE أقصوصة، ومرة أخرى (قصيصة)NOUVELLE مع وجود مرادفات أخرى مثل القصة القصيرة جدا{15} والقصة الإلكترونية… كل ذلك خلق نوعا من الإضطراب المصطلحي الذي يخفي اضطرابا عميقا في الهوية والوجدان.
3- ويعود ذلك إلى نوع من المقايسة بين الحداثة الاجتماعية والاقتصادية وبين الحداثة الأدبية. فالاعتقاد السائد، إلى الآن، يتجسد في إمكانية استيراد الحداثة لتحقيق الطفرة المطلوبة، في حين يقتضي الأمر مساءلة الحداثة من خلال أسئلة الذات. وقياسا على ذلك ساد الاعتقاد ذاته، في الميدان الأدبي، بالدعوة إلى استيراد التقاليد الأدبية – ومنها المصطلح النصي- علما أن هذه الأخيرة – التقاليد- تخضع لمبدع يعتمد في ترسيخها على (مجموع المعايير الأدبية، هذا المجموع مصنوع- شأنه شأن تقاليد المخترع- من مجمل الإمكانيات التقنية المتاحة في عصره){16}.
4- والاستيراد، المشار إليه سابقا، ينتج تدرج لحظات القطيعة مع التراث، الذي وضع في الظل، عوض أن يقرأ، من جديد، بأسئلة الحاضر.
5- وتنتج هذه الوضعية، أيضا، نوعا من (العولمة القصصية) التي تنادي برفض خصوصية الشعوب- بما فيه الخصوصية الثقافية- وهي تجتاح الحدود والدول بواسطة نموذج معياري سائد.
6- من هنا يصبح الحديث عن قصة، بالجمع، محاولة لإعادة الاعتبار لهذه الخصوصية الثقافية للشعوب المنتجة لتجارب مختلفة. ويصبح الحديث عن قصة ما، بعيدا عن(أل) للتعريف، محاولة لرفض معيارية مستأسدة لا تتردد في إلغاء الآخرة علما أن أنماطا قصصية عديدة، وأشكالا حكائية متنوعة، تظل فاعلة في تجارب أصحابها.فالأشكال الأدبية لاتولد من عدم، من جهة ، ولا تخضع للإنقراض من جهة ثانية، بل إنها خاضعة للتحول، في البناء والوظيفة، مع ضرورة الالتفات إلى العصر وتحولاته أيضا{17}.
هوامش:
1- عبدالفتاح كيليطو. الأدب والغرابة. دار الطليعة . بيروت. ص.24.
2- أبو الفرج عبد الرحمان بن علي الجوزي: أخبار الحمقى والمغفلين. دار المدى.2007.
3-محمد عجينة: موسوعة أساطير العرب. عن الجاهلية ودلالاتها. دار محمد علي للنشر/ دار الفارابي. بيروت/ تونس.2005.ص.80.
4- المعجم العربي الأساسي.لاروس. بيروت.1991
5.علي بن محمد الشريف الجرجاني: كتاب التعريفات. بيروت.1990.ص.183.
6-إبراهيم فتحي: معجم المصطلحات الأدبية.دار شرقيات. مصر.2000.ص.185/187.
7- مجمع الأمثال لأبي الفضل أحمد بن محمد النيسابوري المعروف بالميداني.1352ه.ص.9.
8- ويحتاج الإستهلال والخاتمة في الحكاية، أو القص عموما، إلى دراسة خاصة. فأنواع الإستهلال – شفهيا أو كتابة- مثل: كان ياما كان/ قال الراوي/يحكى أن/ زعموا/ حدثنا/روى…تشكل بنيات قائمة الذات لغة ودلالة. ف” زعموا” خرجت من المعنى القاموسي إلى المعنى الدلالي الذي أصبح مرادفا للتخيل والإبداع والخلق.
9- محمد المويلحي.
10- حافظ إبراهيم/
11- فرح أنطون
12-يحيى حقي: فجر القصة المصرية. المكتبة الثقافية. مصر. 1986
13- عبد الله العروي: الإ ديولوجية العربية المعاصرة.دار الحقيقة. بيروت.1970.ص.268.
14- بيرسي لوبوك: صنعة الرواية.تر، عبدالستار جواد.سلسلة الكتب المترجمة.العراق.1981.ص.28.
15- عبد الرحيم مؤذن: معجم مصطلحات القصة المغربية.منشورات”سال”. دار نشر المعرفة. ط.2. الرباط.2001.
16.شكلوفسكي: بنية الرواية وبنية القصة القصيرة.تر، سيزا قاسم. فصول.مج، 2.ع، 4..1982.ص.41.
17. تجارب عديدة لم تتنكر لذاكرة النص العربي الإسلامي مثل تجارب جمال الغيطاني في استفادته من الرحلة و وكتب التاريخ، وعبد الحكيم قاسم في توظيفه للعنصر الصوفي، وجمعة اللامي في استيحائه للمقامة وخيري عبدالجواد في استفادته من كتب التعجيب القديمة والأمثلة كثيرة.