حوار مع الفقيد عبد الرحيم مودن
كتب بواسطة: أجرى الحوار : عبدالله المتقي.
عبد الرحيم المودنالكتابة خبز يومي ، وإلا ظل الجسد جائعا ، والروح تائهة ، والفكر قلقا ، والوجدان قفرا.
على هامش لقاء قصصي ما ، اتفقت والفقيد عبدا لرحيم مودن، أن نجري حوار مطولا حول تجربته المتعددة في الكتابة ، واتفقنا أن يكون عبر أشواط ، أنجزنا الشوط الأول ، لكنها لعنة المرض .
في هذا الحوار يتحدث المرحوم عن الكتابة للطفل ، تجربته القصصية والرحلية وموقفه من القصة القصيرة جدا ، وعن مدينة القنيطرة ذاكرة وحبا :
1- أينك من الكتابة للطفل؟ وماذا عن قصة الطفل بالمغرب؟
+- قد لاأكتمك سرا إذا قلت بأن الكتابة للطفل- والكتابة عامة- اختارتني قبل أن أختارها.أكيد أن عوامل ذاتية وموضوعية لعبت دورها في هذا التوجه، غير أن القصدية المتعمدة، في هذاالسياق، لم تكن واردة. ويزداد الأمر وضوحا عند الكتابة للطفل الذي لم يكن في جوهره سوى الشخصية الثاوية وراء قناع الرجولة والنضج والكبر.من هنا حضر الطفل، في معظم ما كتبت من قصص، عبر المستويات التالية:
أ – القصة الموجهة للأطفال والفتيان بشكل مباشر.(أدب الأطفال والفتيان).
ب- القصة الموجهة للكبار، والتي يحضر فيها الطفل من حيث كونه شخصية محورية تفضح عالم الكبار، أو- من جهة أخرى- تقدم ماقد يعجز عنه الكبار.فالحكمة، بل الفعل الخارق، قد يكون منبعه الطفل قبل غيره.ولذلك أصر بعض الفلاسفة ورجال التربية على ضرورة التعلم من الصغار والفتيان.
ج- في قصص الكبار يصبح الطفل، أو الفتى، مؤسسا للعبة سردية ذات طابع مزدوج: +- لعبة الحكي عن ثيمة طفل محدد بمواصفات محددة. +- لعبة الحكي عن طفولة الكبير، او السارد، من خلال شخصية الطفل المفارقة لشخصية السارد،أحيانا،أوالمتماهية،أحيانا أخرى، مع رغباته وأحلامه الموؤودة لسبب اولآخر. وعلى هذا الأساس تصبح شخصية الطفل ،في هذا النوع من القصص، شبيهة بشخصية الطفل حنظلة لدى ناجي العلي.طفل لانعرف قسماته بعد أن أدار ظهره للجميع، غضبا أو احتجاجا،رأس صغيرة مدببة مثل نبتة صبار دائمة اليقظة،لاتصدر عنه نأمة ،أو حركة، لكنه شاهد على كل ماجرى، في الماضي والحاضر والمستقبل.
هذه الطفولة اليقظة التي تعكسها لوحات ناجي العلي، طفولة من؟ طفولة المرسل أو طفولة المتلقي؟ وفي كل الأحوال ، فحضور الطفل في الحالتين يمثل، بالنسبة إلي، واحة ظليلة ألجأ إليها لاسترجاع طفولة ما، أو حلقات منها على الأقل، واحة تسمح بالإنفلات من حصار “الكبار” بعالمهم المسيّج باللاتواصل،المقنع بأقنعة “النفاق الإجتماعي”، والمغلق لنوافذ الحلم والجرأة،والخاضع لضعط الأطماع الصغيرة والكبيرة، والحسابات الضيقة. وفي هذه الكتابة، لاأقدم العوالم الوردية الكاذبة، بل أجعل من الطفل كائنا مشاركا في صنع عالم يشاركه فيه الكبير والحقير والتافه والعظيم..الخ الكتابة للطفل،إذن، ليست احترافاأو مهنة، كما هي واردة عند الكثيرين، بل هي استرجاع لما افتقدناه ، في زمن ما، ويزداد فقدانه في الزمن الحالي الذي جفت فيه منابع الطفولة، إلى الحد الذي أصبح فيه الولدان “أطفالا بلغوا من العمر عتيا”، وأصبح بإمكاننا- وهذا موضوع من موضوعات الكتابة الطفلية- الحديث عن طفل شائخ يردد الأغنية المبتذلة،ويمارس مسلكيات غريبة استوحاها من عالم الكبار السادرين في التدمير المنهجي لكل القيم، لكل ما هو جميل في الذاكرة والوجدان، لكل ماهو فاعل في الذات الإنسانية.
2-ما الذي أجده في جبة عبد الرحيم مودن أمام هذه الغزارة للقصة القصيرة جدا؟
لن تجد في جبتي إلا الرغبة الملحة في فهم ما يتوالى تباعا من منتوج قصصي لهذا النمط القصصي من(ق،ق،ج) فالقصة القصيرة جدا، لم تنزل بالمظلات، بل هي ابنة شرعة لتطور مجتمعي،وأجناسي، عرفه السرد المغربي- والإنساني- في فترات متباعدة، مع وجود ارتفاع كمي- ونوعي- ملحوظ في الآونة الأخيرة. والغزارة الكمية ظاهرة صحية تسمح بالانتقال من الكم إلى الكيف. ومن ثم فجبتي ليست لباسا “فاتيكانيا” ، بل هي جبة عربية متعددة الجيوب، مشرعة على الريح،منفتحة على الجهات الأربع. الغزارة ،مرة أخرى، إصرار على انتزاع حق الوجود ، ولوكان في حبة عدس. تلك هي القصة القصيرة جدا، تلك هي القصة القصيرة عامة. ومع ذلك، فالباحث، في هذا المجال، لايسلم من لوثةالسؤال حول النمط والجنس والشكل والتنويعات والأساليب .لا يسلم من هاجس الرغبة في التنظير بحثا عن مقابل للتوصيف السائد(ق ق ج) عبر مقترحات تجنيسية مثل ال(أسرودة) على وزن أهزوجة/ أعدودة( مراثي النساء المحكية)..
3-أنت قاص بارع، ناقد عاشق وعالم، تكتب للأطفال، ثم عارف بأسرار الرحلات، فأين تبني خيمتك وتستريح؟
كل المحطات، يا عزيزي، صوى الطريق. تلك العلامات هي التي تمنعك من التيه،من جهة، وتنير لك ، من جهة ثانية، مستويات الكتابة. وإذا اتفقنا على أن الكتابة رحلة في الزمان والمكان ،في التاريخ والوجدان، فإن المجطات السابقة تصبح بمثابة دليل يحفزك على اختراق المجهول بنوع من الاطمئنان النسبي الذي يخفف من حدة القلق ، إكسير الكتابة الدائم.
وأثناء الإشتغال ، في مجال من المجالات السابقة، تصبح الكتابة فضاء فسيحا لتصادى الصيغ الأنماط والأساليب التي تمارس نوعا من ” الدعم الذاتي” –إذا صح التعبير- الذي يلعب دورا محوريا في إضاءة زاوية محددة، أو بنيةسردية معينة. فاشتغالي على المتن الرحلي، مثلا، منبعه اهتمامي بالقصة المغربية- قصة قصيرة ورواية- أثناء تحضيري لدبلوم الدراسات العليا(1987) حول الشكل القصصي في القصة المغربية من الأربعينيات إلى نهاية الخمسينيات(الرسالة مطبوعة في جزتين). ومن ثم خضع المتن القصصي المغربي، في الكثير من نماذجه للبنية الرحلية، خاصة كتابة الرواد الأوائل(أحمد بناني/عبد الرحمان الفاسي/ عبد العزيز بنعبد الله/أحمد زياد/ عبد المجيد بنجلون..).وتوالت الأسئلة التي أفرزها النص القصصي في علاقته بمكون الرحلة- دون إغفال مكونات أخرى مثل المحكي الشفهي- بل إنني تساءلت، أثناء تحضيري لدكتوراه الدولة حول (مستويات السرد في الرحلي المغربية خلال القرن 19)(1997) عن دلالة الرحلة في سياق المدونة الأدبية المغربية من خلال اعتبارها رواية مجهضة؟والإجهاض يعود إلى مجتمع القرن 19، المتارجح بين الإنغلاق والإنفتاح. وهذا موضوع آخر.
4-حذاء بثلاثة أرجل. من أي ورشة أتيت بهذا العنوان العجائبي؟
عادة ما يأتي العنوان بعد الإنتهاء من كتابة النص.وقد ينبجس، فجأة، أثناء سرد السارد المصنوع من لحم ودم، وهو يصارع السارد المصنوع من ورق.في النص المشار إليه أعلاه،استحضرت الشخصية ، في أقصى درجات الإحباط والهوان، مستحضرا البعد الإنساني للشخصية من عمق معاناتها مع حذاء أصبح قدرا لا مفر منه،عقابا لامحيد عنه. والمتأمل للحذاء في النص يلمس الطبيعةالعدوانية للحذاء إلى الحد الذي تحول فيه إلى صورة حيوان بثلاث قوائم شبيه بأسنان كماشة لاتريد ترك المعني بالأمر بسلام.وستزداد حدة المأساة، بإصرار الشخصية على انتعال الحذاء بأي ثمن، إلى الحد الذي تحول فيه هذا الأخير إلى كيان قائم الذات، يتحكم في السير ، ويوجه رغبات الشخصية الوجهة التي يريد. تذكر شخصية” بوينديا”،في مائة عام من العزلة بذنبه الصغيرالي نبت له فجأة دلالة على تحول السلالة، سلالة “بوينديا”، خاصة في لحظات الهزيمة. في حذاء بثلاثة أرجل- وهذا مجرد استطراد-لم يشفع تغير السن للشخصية في الإنفلات من أعلىى مراحل الإنسحاق والمهانة.
5- من أي الأبواب دخلت مدينة القصة القصيرة؟
لنترك جانبا العوامل اللاوعية في صنع شخصية الكائن،ولنترك جانبا الكلام المكرور حول العوامل التربوية والأسريةوالتعليمية، بالرغم من أهميتهافي هذاالسياق، مركزا عل عاملين أساسيين:
+- عامل المدينة التي اعتبرتها- وماتزال – قصة قصيرة متجددة.فالقنيطرة(المغرب) مدينةلاتؤمن إلابالفردانية- خيرا أو شرا- المستندة إلى جهد دؤوب تعكسه حالات من الصراع الشرس تحقيقاللوجود. هذه المدينة التي خلقتها من عدم السلالة الهاربة من طغيان المخزن والجوع والوباء ،لم تجد إلا سواعدها ، وصراعهاىاليومي ضدالطبيعة الطبيعية، الطبيعة البشرية. فالقنيطرة- بالرغم من وجود بعض الأسماء المتهالكة- لاتؤمن- مثل المدن التقليدية- بالتقاليد والإسم العائلي، والأصول المتوارثة.مدينة ترفض أن تكرر ذاتها، ترفض الموت، متعددة اللهجات، خلاسية،تعرف لغة الطير والشجروالبشر والحجر، وتختلس من الزمن لحظة الفرح التي لايتنازل عنها كائن هذا المكان ، ولو في أحلك الظروف. مدينة تنعدم فيها الأسوار مشرعة على الماء، على البراريي ةالحقول الشاسعة.
مدينة المفارقة الدائمة: الغنى والفقر، السجن الكبيروالفضاءات المتناقصة يوما عن يوم، المغرب النافع والمغرب غير النافع،الماء المتدفق وحزامها المحروم من قطرة شحيحة ولوكانت مزيجا من طين وعلق،أو المبذر بسفاهة، وبدون مقابل، في مسابح فيلات تسبح فيها أجساد مصنوعة من مراهم ومعاجين و جلود من بلاستيك ومواد كيماوية مختلفة. معامل الطاقة الكهربائية ،مدينة والنووية وأكواخ تحتا ل على شركة الكهرباء، أو تلجأ إلى الفتيل والزيت والقنديل،فيلات وشاليهات وعمارات مافوق حداثية بمسابح وكاميرا ت وصالات الرياضة والرقص والأعراس، وأكواخ وبراريك علنية وسرية في الغابات المجاورة،والتجمعات العشوائية المخلوقة بقرار انتخابي تحت زعامة مرشحين لايفرقون بين الألف والعصا،أدباء(أكبر نسبة لكتاب القصة القصيرة مغربيا بالمدينة) وفنانون وباحثون،وانعدام تام لمركب ثقافي أو مسرح أو متحف أومكتبة حقيقية محترمة،أو قاعة سينيما(تم الإجهاز على القاعات الست بقلب بارد) أوحدائق مجهزة، أو نصب تدكاري دال،أو مدرج بالجامعة يحمل أسماء كتاب ومصلحين وزعماء وفنانين( محمد زفزاف/ مبارك الدريبي/ بوشتى لجامعي مؤسس التعليم الحر بالمدينة/ المعطي الحيمر الأستاذ الموسوعة الذي تخرجت على يديه أجيال وأجيال/ولد الوزانية البطل الأسطوري ضد الاستعمار…)، شوارع وأزقة تحمل أسماء نكرة،أو أسماء خاطئة مثير ةللأسى،وأخرى متداولة لمهربين ومجرمين وتجار أعراض فرضها الإعلام الشفهي ومن وراءه بطريقة أو بأخرى. مدينة الماءين (النهر والبحر)، مدينة الطيور النادرة، والأشجار المختلفة المستنبتة في أرضها الطيبة التي تحولت إلى جلمود صخر، تسامق بعته ودعارة مجانية، وأناخ بكلكله على الشمس والهواء والنسمة والظلال والأرواح الهائمة.أليست هذه مدينة القصة القصيرة بامتياز؟
+_ أما العامل الثاني فتجسد- وهو من مثقفي المدينة- في أخي الأكبر حميد رحمه الله.بفضله اطلعت على نصوص الستينيات الأساسية-شرقا وغربا- في الأدب والفلسفة والتاريخ والمجتمع. وبفضل تجربته الغنية- أستاذ للفلسفة- في الحياة ،وممارسة الفن ( وهو من رواد الرسم الزيتي بالمدينة) في القول والفعل، رسما وموسيقى كلاسيكية وهوسا بالطبيعة الطبيعية والإنسانية- كل ذلك ساهم في ميلي إلى القصة القصيرة قبل غيرها.ولما كان أخي حميد من المعجبين بالمدرسة الانطباعية، فإنني تعلمت منه الآتي:ليس المطلوب في اللوحة هو الشعاع، بل كيف انبثق الشعاع؟وتلك هي القصة القصيرة.
6- من أنت:إنسانا ماطرا بالكتابة،ومهووسا بلعنتها الجميلة؟ في سؤالك بعض من الجواب المطلوب.
الكتابة ، بالنسبة إلي، ممارسة يومية،ولا أحتاج إلى طقوس محددة،فقد تحضر، أو تغيب، في أجمل المواقع،أو في التي قد لا تخطر على البال.الكتابة قد لا تقتضي توفر القلم والورق، بل إنني أكتب ، أحيانا، بالبصر والسمع والشم والذوق، وكلها قنوات لتخزين المكتوب المنتظر.الكتابة خبز يومي،وإلا ظل الجسد جائعا، والروح تائهة، والفكر قلقا، والوجدان قفرا. إنها أداة تطهير، تجاوز للصدأ اليومي، مقاومة للموت البطئ، نوع من التسامي عن هذا العالم المضحك المبكي الذي يريد أن يحول الفرد إلى بهلوان، إلى قطيع فاقد للإرادة،منعدم الحس،صفر على الشمال.مزيدا من اللعنة/ مزيدا من الكتابة الموسومة بهذه اللعنة الأبدية، لعنة التمرد والصراخ ضد القبح والرداءة والاستهلاك المريض. عبد الرحيم مؤذن مع الشكر سلفا
أجرى الحوار : عبدالله المتقي