ليس السخاء بأن تعطي ما أنا في حاجة إليه أكثر منك ، بل السخاء بأن تعطي ما تحتاج إليه أكثر مني .
*جبران خليل جبران
في غفلة منا الأصفياء يرحلون ، رحلة الزمن ماضية في السفر الأزلي ، انتبهت لذكرى رحيلك صديقي العزيز : عبد الرحيم مؤذن بهذه السرعة تسربت سبع سنوات، ولما زال صوتك يرن في الأذن ، وانتقاداتك وملاحظاتك تملأ سمعي ، ومن اللافت جلساتك الصباحية في إحدى المقاهي بمدينة القنيطرة ، كانت موزعة بين قراءة الصحف وتدبيج المقالات القصيرة السيارة التي ترسلها لجريدة ” العلم ” بشكل متواتر ، قبل أن نفترق وكل يقصد وجهته كنت تسألني عن آخر الأخبار الثقافية وما أقرأ من روايات وعن آخر الأنشطة ، كانت تلك مجرد فاصلة في يومك المكتظ بالأشغال ، وأن تتخلى عن سيارتك وتكتفي بدراجتك الهوائية ، حيث تزور أماكن الدهشة الأولى وتتبادل الحديث مع المعارف في حي الأطلس ، أو تأخذ مشروبا في مقهى شعبي ، كم كان يحلو لك أن تتأمل تلك الأماكن الحميمة القريبة إلى سويداء قلبك ، كنت مشدودا – حد الهوس –بالقراءة والكتابة والسفر ، واهتماماتك متعددة ومتنوعة ، لا يتسع لها وقتك ، وأنت بين بحث يكتب ويراجع ودرس تتقصى ضوابطه ومراجعه ، وقصة آخرى تروضك ، ومقالة تجذبك ، وحلم بسفر بعيد يوقظ فيك حجب استطلاع المكان والزمان ، فما قد يجتمع في المتعدد يختزل في عبد الرحيم ونظرته المتجددة للحياة. .
وفي صبحيات الآحاد كنت أهرول إلى شاطىء ” المهدية ” راجلا ، وكان يحلو لك التنزة وأنت تمتطي عجلة ، تصادفنا ذات مرة ، وخذنا في أحاديث شتى ، وتوقفت متنهدا وأنت ترنو إلي بنظرة غريبة ، وتسر لي بأنك تخاف الموت ، فكنت كعادتي أجيب ، الموت لا يخبر بزيارته المفاجئة والصادمة ، فلنحيا بفرح ونموت بفرح وكل مكسبك اللحظة التي أنت فيها ، ولم أدرك ـ زمنئذ ـ سر تفكيرك في الموت وأنت المقبل بعنفوان على الحياة ، لكن الوساوس الصحية ككرة الثلج بدأت تكبر ،وفرقت بيننا السبل ، حتى تم بيننا لقاء بمحطة القطار بالقنيطرة ، أنا عائد من معايدة أم أنهكتها الشيخوخة وأنت تنتظر قطار مراكش لتقصد صغيرتك بهية التي تشتغل هناك ، وكنت قد عفوت عن ذقنه وكست وجهك لحية قصيرة دكناء مذببة ، مرتديا جلبابا مؤقلما ، كان كلامك برقيا مقتضبا ، ، وشعرت بنزوعك التام للوحدة والإنعزال ، وكنت عادة ماتلكزني بالنقد والعتاب والسؤال عن فلان أوعلان ، لكن ياعبد الرحيم كم أنت ـ هذه المرة ـ فاترا وكاظما لألم ما ، خففت إلى قطارك وتواريت عن الأنظار زمنا ، حتى استشرى الورم الخبيث ، وعجز الطب والتطبيب وأدركك هادم اللذات ومفرق الجماعات وترحل جسدا لتبقى بيننا علامة ورمزا ، وقد شيدت – بسهر الليالي – عمارتك الأدبية والفكرية ، متنقلا كفراش باحثا عن صفاء الرحيق في أدب القصة وأدب الرحلة وأدب الطفل ، منتصرا لكل ماهو مغربي أصيل ، نابشا في متون التاريخ متقصيا الجغرافيات ، فلم تكن باحثا في الرحلة بل كنت مولعا بالسفر ، رحالة بدورك .
كنت كنهر سبو دفقا بالسرود القصصية ، مهتما بالصغار والكبار على حد سواء ، انطلاقا من نصك الفاتحة ” ريالات خمس ” إلى مجموعتك ” طاحونة الملح ” مرسخا وجودك في المشهد القصصي مع رفيق دربك إدريس الصغيرفي أضمومة ” اللعنة والكلمات الزرقاء ” من تقديم أستاذ الأجيال إبراهيم السولامي ، ويتواصل مد العطاء مع مجموعة ” وتلك قصة أخرى ” ، ” أزهار الصمت ” ،” حذاء بثلاث أرجل ” ، ” طاحونة الملح ” ، فتنتك القصة القصيرة إبداعا ودراسة ولعل دراستك التي صدرت في جزأين من أقوى الدراسات في هذا المجال ، ولا يكاد أن يستغني عنها باحث ” الشكل القصصي في فن القصة القصيرة بالمغرب ” ومع دراسة ـ رديفة ـ لا تقل أهمية ” معجم مصطلحات القصة المغربية ” .
وعند أدب الرحلة وقفت مليا فمن ” مستويات السرد في الرحلة المغربية في القرن التاسع عشر ” إلى ” الرحلة في الأدب المغربي ” ثم ” أدبية الرحلة ” وتوجت دراستك وتحقيقك بجائزة ابن بطوطة في الأدب الجغرافي سنة 2003 ” الرحلة التتويجية إلى الديار الإنجليزية للرحالة المغربي الحسن بن محمد الغسال ” .
وكم كنت مدركا بأهمية الكتابة للطفل بعلمية واقتدار ، ووضعت مجموعة من المؤلفات موجهة للصغار والفتيان ومن أطرافها كتب رمت عبرها الحديث عن طفولة بعض الكتاب ، لكي يستقي منها النشء العبرة والفائدة وقمت بجولة مسحية في طفولات : عبد المجيد بن جلون ، إدريس الخوري ، غسان كنفاني ، مبارك دريبي ، الطيب صالح ، نجيب محفوظ ، خناثة بنونة ، طه حسين .
وألفت للأطفال في المسرح والقصة وأدب الرحلة أذكر على سبيل المثال :” مغامرات ابن بطوطة للفتيان “، ” رحلة ابن بطوطة الجديدة ” حكايات شهرزاد ” ، ” السمكة والأميرال ” وقد تمت ترجمتها للإسبانية ، ” مغامرات الفتيان السبعة ” وغير ذلك كثير يصعب حصره في هذا الحيز.
ناهيك عن تأليفك للكتاب الموجه للطالب والتلميذ والمسعف لدراسة الأدب وفي هذاالصدد نجد مقارباتك النقدية التعليمية لكتب : ” الأدب والغرابة ” لعبد الفتاح كليطو ، ” قراءة ثانية لشعرنا القديم ” لمصطفى ناصف ، ” سهرة مع أبي خليل القباني ” لسعد الله ونوس ، ” محاولة عيش ” لمحمد زفزاف ، ” الرجوع إلى الطفولة ” ليلى أبوزيد …
بدون أن أنسى مسارك المهني والعلمي الحافل الأيدي البيضاء ، انطلاقا من عملك بثانوية ” النجد ” بسلا ، وإحدى الثانويات بمكناس ، وثانوية محمد الخامس بالقنيطرة ومن بعد ذلك التحقت بالمركز التربوي الجهوي لتكوين الأساتذة بالقنيطرة وبعد ذلك عملت أستاذا جامعيا بكلية ابن طفيل ، فإلى جانب كونك أستاذا محاضرا كنت نشطا في عدة جمعيات ومراكز باحث داخل الجامعة وخارجها ، من مسؤوليات داخل اتحاد كتاب المغرب ، ونشاط جمعوي