هذا المقال يحتوي على: 393 كلمة.

حجم الخط

remove add

تغيرت أشياء كثيرة دون أن يتغير هذا المكان، عاش من عاش، ومات من مات، والصالون مزهو باسمه منذ الزمن الستيني الذي لن يتكرر مرة أخرى.

تغيرت أشياء كثيرة وتغير مالكه، أيضا، دون أن يتغير الصالون بحروفه البيضاء اليانعة، وكأنها كتبت البارحة وواجهته الزجاجية اللامعة دائما النقية دوما، وفي أعلاها كان صوت الكناري لايتوقف عن الغناء الشجي.

كان الصالون في الطوار المقابل لسينما الرياض التي أصبحت، مثل ضريح منسي، حارسها الأمين، بعد أن غادرها أبطال اليونان والرومان، وشجعان الإسلام، وجيوش الحربين، وعصابات صقلية وفتيان وفتيات الشاشة المصرية.

.

كلهم مروا من هنا، ومازال وقع السنابك يتردد في الآذان، كما أن العيون لن تخطئ بقايا نقع معارك لا، ولن تنسى.

وغادرها وهم من رواد الصالون أيضا أبطال خرجوا من رحم الأشرطة، وفضلوا الشارع العريض القادم من جهة النهر، والمتجه نحو المقبرة العتيقة شرقا مرسلا تحايا الصباح والمساء من قبل الغادين والرائحين ل الصالون – وزبنائه واللسان يقول كلاما، أما القلب، فلازمته لا تتغير: عم صباحا، أو مساء أيها المربع، أو المرتع، فالروح لم تعد تملك إلا العواء الصامت!! وأنت تقترب من الصالون ترفع عينيك بالضرورة الى حلاق الطالب وتبتسم لسذاجة تلك الأيام بعد أن انتصر الطالب في معاركه اليومية، وأصبح له صالون يحترم كينونته الطلابية.

فحوانيت الحلاقة في ذلك الزمان قسمان: حوانيت أو صالونات النصاري بالمدينة الجديدة.

وهذه بعيدة عنا، ما عدا أيام الجمعة التي تنزل فيها المدينة القديمة نحو المدينة الجديدة ونمرا آنذاك عمدا أمام الصالون الفرنسي أيضا، ونعرض رؤوسنا ووجوهنا لرشات عطر يحيى الموتى قبل الأحياء!! اما القسم الثاني، فهي حوانيت الحلاقة، ولم تكن كلمة صالون قد استعملت بعد، المتعددة الخدمات من حلاقة طبعا وختان، وفصد دم وتشذيب شوارب ونصائح عديدة لتقوية الشعر ومواجهة الثعلبة، واستعمال المراهم المحلية وغير ذلك كثير.

ولعل هذا ما يفسر توارث هذه الحوانيت من قبل عائلات شهيرة، وأسماء عديدة مازال يذكرها الناس بهذه المدينة، بكل خير وإحسان.

في الواجهة الزجاجية للصالون، جملة فرعية، بالأحمر الناصع، تقول إنها قاعة للحلاقة مع سبق الإصرار، ودون زيادة أو نقصان! وهذا احترام للفن، فن الحلاقة دون غيرها.

الحلاقة أولا، وما عداه يشترك فيها الحلاقون.

ولا مانع، بعد احترام الحلاقة التي هي فن مثل باقي الفنون، من رش العتبة في عز موسم الأمطار، وتربية الحيوانات الأليفة من طائر وقط.

وإن كانت الطيور تأخذ الخطوة أكثر من غيرها، كما هو شأن كناري صالون الطالب! وبجانب رش العتبة، والأمطار خيط مسترسل من السماء، تتوالى الطرائف والنوادر، وآخر الأخبار وأحدث التعاليق، والحديث لا يتوقف بين الحلاق الفنان والزبون الجالس على الكرسي الدوار، أو الجالس على الكنبة المواجهة للمرايا الممتدة من أقصى الجدار إلى أقصاه.

في الصالون تنجز عملية التواصل بنجاح لا مثيل له بين المرسل والمتلقي.

وهذا الأخير يصبح مرسلا والعكس بالعكس صحيح.

الزبون الصامت لا مكان له في صالون الحلاقة عامة، وهذا الصالون خاصة!! وبالرغم من كون الصالون لا يتجاوز المترين طولا وعرضا، فهو يحمل كنوز الأرض من مرايا صقيلة أغلبها مستورد من بلاد بعيدة.

وقوارير العطر المحلية مثل العطر الشهير الذي كان معبود المراهقين والمراهقات.

وهو المشهور بزجاجته المربعة ذات الخصر الأنيق والحاملة لاسمها المزلزل أنا ليك تحت صورة امرأة جانبية لم تتوقف عن الابتسام منذ بداية الستينات إلى آخر العقد.

بعد أن غابت الزجاجة وصاحبتها! وبجانب هذه الزجاجة الشهيرة وجدت أدوات الفن من مقص وأمواس وأنواع المشط البني والأسود بأسنانها الدقيقة والمتينة بمقبض أو بدونه، وأحواض الرغوة الصغيرة المصنوعة من الكاوتشوك الأحمر.

وبعضها قد غسل للتو.

والبعض الآخر مازال يحمل بقايا رغوة تخللتها شعيرات مختلفة الأشكال والأحجام والألوان.

أما مسدسات تجفيف الشعر فغدارتها كانت تنظر الى أسفل بعيون منطفئة، وهي ترنو الى الخصلات المتناثرة فوق الزليج ذي المثلثات البنية المتداخلة مع المثلثات البيضاء والسوداء التي لا يطرف لها جفن!! أما النطع الجلدي بمقبضه العاجي، فقد استقر بجانب الكوب الفضي الذي أطل منه رأس مقص وبعض الشفرات اللامعة، وقلم رصاص.

أما الجدران فنصفها من خشب بني لامع.

ونصفها من زليج متراقص الألوان الى حدود السقف.

وحمل النصف الخشبي اليومية العصرية، وساعات ثلاث، واحدة لمشروب شهير.

والثانية ذات البندول النحاسي الراقص، أما الثالثة فكانت ساعة إلكترونية حديثة معطلة مثل الساعة الثانية ذات البندول الراقص.

أما الأولى فكانت دائمة الاشتغال على قدم وساق!! وبجانب الساعات، كان شعار ريال مدريد وصورة جماعية، بالأبيض والأسود للفريق ذاته، ودبلوم مهني بإطار مذهب، و هذا من فضل ربي بخط مغربي.

وفي الركن الأيسر علق مشجب، برؤوس حمراء نافرة، حملت وزرات بيضاء ومناشف مختلفة الألوان والأحجام.

أما الجهة المقابلة فقد حملت رفوفا زجاجية أحدها سميك بلون أسود اعتلاه راديو (فيليبس) بصفحته الحريرية الناعمة، ولولبين برأسين دائريين، واحد للصوت، والآخر لتحريك الموجات الإذاعية.

زما الرفوف الأخرى فتوزعت على صفائحها زجاجات العطور النادرة أو علب طالك والمراهم الشهيرة.

كان الصالون بيتنا الثاني.

وفيه تعلمنا الكثير.

ولولاه لما عرفنا ما عرفناه، تسريحة إلفيس و حلاقة جوني.

أما في فصل الصيف فالرأس حليقة عن آخرها، وعن طريقها عرفنا تاراس بولبا الأصلع قبل أن نقرأ جوجول .

كان الصالون يرادف الحياة.

منه وإليه نعود.

رحم الله زمنا لن يعود إلا بطلب السقيا مزيدا من السقيا مدد.

عبد الرحيم مودن 5/11/2006

عن جريدة الاتحاد الاشتراكي

شارك هذا المقال على:
حلاق
حلاق الطالب

كتب 63 مساهمة في هذه المدونة.

حول الكاتب :

إن أ.د.عبد الرحيم مؤذن، شخصية إنسانية وثقافية وإبداعية.فهو أديب وقاص وناقد مغربي وباحث خاصة في أدب الرحلات . ولد بمدينة القنيطرة المغرب سنة 1948 وتوفي ب هولندا في 27 يوليو 2014م.

editأكتب له أو تتبعه على:

علق على هذا المقال :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

*account_box
*email
*comment_bank
You may use these HTML tags and attributes: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <s> <strike> <strong>