إلى روح محسن فكري الذي راح ضحية شاحنة أزبال
شاحنة الأزبال 1
أقول لكم يا سادتي، يا كرام…لدي شعور حاد بأن شاحنة الأزبال ستدهسني يوما ما… في بلدتي الصغيرة، الشاحنة لها تاريخ طويل. الكثير من الكائنات الحية دهستها هذه الشاحنة…بدون سابق معرفة… انتصبت أمامي علامة استفهام عريضة…العلاقة بين الإنسان وما تحمله الشاحنة علاقة وجدانية…نسيت أن أضع علامة الاستفهام… السؤال سيثير حفيظة الجمعيات المختصة بالدفاع عن الإنسان… في منطقة نائية من العالم…” الثلث الخالي من الدنيا”…كل مكان احتوى على القاذورات بما فيها الكفاية سمي “الثلث الخالي من الدنيا”…هناك حيث تختلط الأرغفة بذرات الرمال و تختلط علب الصليب الأحمر بكميات البراز المتعدد الألوان…ثم يبقى الإنسان في النهاية ضمن هذه اللائحة الطويلة يحتل مكانا معينا… الشكل يبدو مثل فطيرة عيد الميلاد المزينة بمواد كثيرة…
أذكركم أيها السادة أن تمجيد الكائنات الحية عند هذه الجمعيات يخضع لوجود هذه الفطيرة في حفلات عيد الميلاد. البارحة رأيت وجها كدت أنساه…كان من أصدقاء الدراسة…تلاقت الأعين…ابتسمت الشفاه…كل منا سار في طريقه…أؤكد لكم أن العملية لم تتجاوز الدقيقة الواحدة…
“يا قبرنا المنسي”…”يا حبنا المنسي”. يا وطنا لن ننساك…خرائط الجغرافية تخلق كل يوم وطنا جديدا…أرفضك أيها الوطن المزيف…الخرائط الشفافة بألوانها الفاقعة، لم تعد تقنعني بوجودك المزيف.
في بلدتي الصغيرة…الشاحنة لا تتوقف عن الحركة…العملية بسيطة أيها السادة… الأزبال تنقل…توضع في الشاحنة…تفرغ في مكان قريب من الأزبال السابقة، يعاد حملها من جديد…”حافظو على نظافة مدينتكم” … أرأيتم أيها السادة… العمل مستمر على قدم و ساق…الشاحنة تواصل طريقها… “الحلاق يرش باب الدكان”. الأمطار تتهاطل بكثرة. “ديوجين” خرج يبحث عن الحقيقة في وضح النهار…كان عمل الحلاق طبيعيا… بلاد تعتصر فيها الشفاه الصخور…و تنبش الأيدي القبور… الأمطار لم تعد كافية. “لن تمطر السماء ذهبا”. الأرض الصلدة تنعدم فيها مقومات الخصوبة. أحجار…اسفلت…رمال…الرش بالماء عملية مثمرة.
“الصدفة أحسن من ألف ميعاد”
تردد إسم الله في الأعالي…سيارة الموتى تتقدم الصف الذي لا يخضع لأي تنظيم…السيارة في المقدمة. السيارة في المؤخرة…الله أكبر…الله أكبر…و لا إله إلا الله، الله أكبر… ليس من الصعب تحديد هوية الشخص المحمول في هذه السيارة… دفن الفراعنة موتاهم بأسلحتهم و عرباتهم الحربية و أدوات الزينة التي خلت منها الرفوف…” وصلوا إلى ما لم نصل إليه”…عنوان جريدة شرقية…علق شخص من الطوار الأبيض
ـ ايه كلنا لها…ايخ من هذه الدنيا…
اهتزت الرؤوس…تلمظت الشفاه…ارتفعت التنهيدات…
اخترقت الشارع الموازي شاحنة الأزبال…تكوم فوق القاذورات كلب منتفخ الأطراف…منفرج الفم، منتصب القوائم، مفتوح العينين…العامل المنتصب فوق أزبال الشاحنة يتجاذب أطراف الحديث مع العمال الملتصقين بمؤخرتها… الكلب كان ممددا باسترخاء…القهقهات تنبعث من الأفواه الثلاثة ” اللي مات على شبعة لهلا يقلب به” قهقهة العمال مرة أخرى. الشاحنة تواصل طريقها…نظر إلي مشاهد شزرا…همهم بكلام غير مفهوم…ابتسمت…”جيل المسخ”
رفيقتي…الاختناق في كل مكان…أمد يدي إلى رقبتي لأفك عني هذا الاختناق. أنزع ملابسي…الاختناق يتحول إلى غول مخيف يطاردني…تنتصب طلعتك أمامي…يتوقف قلبي عن الخفقان…تمنيت أن أموت في حمرة خديك الدائمة…أرفع صوتي عاليا بطريقة مسرحية: إلى الجحيم…يعود الاختناق إلى مطاردتي…رفيقتي مت منذ زمن بعيد…
في بلدتي الصغيرة شارع طويل يخترقها في الوسط…يمتد إلى أقصى الشمال…أناسها بسطاء…يأكلون…يموتون…يضحكون…يغضبون…يبكون…الحياة تنساب بهدوء…
عبد الرحيم مودن، 1972
يتبع