العلم الثقافي
مدرسة «التوباد» (1)
إلى محمد إدراغة وكل تلاميذ المولى إسماعيل
نزلت مكناسة الزيتون، أستاذا للغة العربية،بثانوية المولى إسماعيل، وأنا ما زلت غضا غريرا، أجرّ ورائي سنوات الفتونة والتمرد، وها أنا أترجل، الآن، أمام أكبر معاقل « الفركفونية» بمعطفي الذي يلامس الأرض،وشعري الطويل ولحيتي الصغيرة غير المشذبة،وشعار الجبهة الديموقراطية لتحرير فلسطين يشع من عرو ة المعطف، وصورة « مصطفى سعيد»- بطل موسم الهجرة إلى الشمال- لا تغادرني مرددا :» جئتكم فاتحا»، إلى أن أوقف زحفي الحارس الصنديد الذي نهرني ، بصوت ملعلع، مشيرا نحو باب التلاميذ،فما كان مني إلا أن ابتسمت ،وأنا أناقل الخطو في اتجاه باب الأساتذة،برزانة ووقار،بل بافتخارلايشق له غبار! وهمست لنفسي بمقطع من «شعب بوان» للمتنبي الذي كان فيها ( غريب اليد واللسان).
2- لقطة ثانية بالأبيض والأسود
إلى عهد قريب،أو قبل نزولي المدينة بسنة بالتمام والكمال، كان مدير المدرسة من القادمين من ما وراء البحار» مسيو سير». وعندما كنت أخترق الساحة الفسيحة متجها نحو حجرة الأساتذة، لم تغادرني صور ة ذلك اليوم الذي قررت فيه المدرسة- مدرستنا التي بنتها الحركة الوطنية- إرسالنا إلى المدرسة العصرية
بالمدينة الجديدة لاجتياز امتحان الشهادة الثانوية. لاأذكر لحد الساعة إلا صورة المدير الفرنسي الشبيه ب» لينوفانتيرا»وهو يصرخ في وجوهنا أمام قاعة الإمتحان/ ارفعوا أيديكم. وبدأ التفتيش الدقيق من الرأس إلى أخمص القدمين.كان اسمه»شالو». لعله يشبه مسيو»سير..».ابتسمت.. مسيو «سير» كان قد غادر الثانوية منذ عام كامل.!وقبله(شالو) لا رده الله!
3- لقطة ثالثة مكبرة
أطلقنا على ثانوية المولى إسماعيل:جامعة المولى إسماعيل.فهي متعددة الشعب والأعراق والقادمين من جبال الأطلس، أومن سهول ونجود الجنوب..متعددة اللغات والمسلكيات والفئات الإجتماعية..أساتذة- ومعظمهم أجانب- يمارسون تقديم المعرفة من مواقع متعددة توزعت بين العلمية والعلموية، بين السياسي والإديولوجي، بين التحرر والفوضوية، بين التنوير والتنفير..
تلاميذ من وراء الأسوار،وآخرون من خارجها،سكنا وعادات ورؤيات للحياة والناس..مزيج من تقاليد مدينة» قروسطية، وأخرى حداثية جاءت محمولة على المدافع وسبل الترغيب والترهيب..
ولم يشذ عن ذلك سوى مدرس اللغة العربية الذي لم يكن يواجه « العجم»،بل وجد «الأرض الخراب « التي تركها السابقون من الأهل ،والعشيرة، على الشكل التالي:
أستاذ اللغة العربية لابد أن يكون مجلببا، وإذا لم يكن كذلك، فإن لباسه» العصري» لن يكون إلا «كاريكاتوريا». ولابد من استكمال الصورة النمطية بالعناصر الآتية: كرش ضخمة، وربطة عنق متقادمة،وسمرة غامقة،ودخول وخروج في الكلام،و توزيع النوادر
و أبيات الشعر الغزلي – بنوعيه- خاصة الذي يشيب له الولدان!
وإذا أضفناإلى ذلك العناد من ناحية،والإدعاء من ناحية ثانية، فإن ذلك سيهدم المعبد على من فيه.وهذا ما حدث لي في الحصة الأولى بقسم الباكالوريا الإقتصادية التي كان طلبتها ينظرون إلي ،وكأنني كائن قادم من كوكب آخر.سأكتشف في حصة لاحقة بالقسم ذاته، أن أستاذ اللغة العربية- سامحه الله- للعام الماضي، كان من المكتشفين لنوع جديد من البن( القهوة) التي كتبها بالبنط العريض على السبورة على الشكل التالي:اللبن.ولما تساءل التلاميذ عن مدى صحة الكلمة ،وقد مروا بها أمام الحوانيت ويافطات الإشهار ،أجابهم بأن القهوة تكتب بذلك الشكل،أي ( اللبن)، فتساءل التلاميذ: هل هوالحليب يا أستاذ،أم القهوة؟!، فأصر الأستاذ على كتابة ( البن) باللبن ولوطارت معزة..!!، وتساءل التلاميذ ،من جديد،عن ( اللبن) الذي ينبت في الأشجار؟، فجاء الجواب:نعم إنه ينبت في البرازيل..!!
في الأقسام الأدبية- ومنها قسم الخامسة أدبي الذي ما زال حيا في الذاكرة والوجدان، كان الأمر مختلفا . فالأستاذ الجديد ينتمي إلى الجيل ذاته، بل هناك من يقاربه في العمر.والزمن السبعيني،زمن الجدران التي لها آذان.والبلد على صفيح ساخن في المدرسة والجامعة والشارع.والإعتقالات لاتتوقف كما عكستها الصحافة العلنية ،والسرية أيضا، كل صباح،والإضرابات متواصلة في المدارس والجامعات والمعامل..
وبالرغم من إعلان الوزارة عن سنة بيضاء- في بداية السبعينيات-بعد مرورثلاثة أشهر بالتمام والكمال، فإن ذلك لم يمنع من نسج علاقات الود والإحترام ،والتعاطف أيضا،
بين الأستاذ والتلاميذ.
ما زلت أعتز بتلك المرحلة التي تحدينا فيها كل شيء:افتقادنا للكتاب المدرسي،ماعدا كتيب التعليمات الأزرق الذي امتلأ بعناوين الدروس وأسماء الأعلام، وبعض الوصايا البئيسة. كان أشبه بسجل الوفيات، أو كتا ب الصادر والوارد. ومع ذلك، قمنا بطبع كتابنا المدرسي على آلة» الستانسيل»، ورسم أحد أساتذة اللغة الإنجليزية- رحمه الله- لوحة الغلاف، وانطلق العمل بحماس لا نظير له إلى أن وقعت الواقعة ? واقعة السنة البيضاء وهي في الواقع حمراء- لكن المطبوع ظل شاهدا على زمن جميل آمن فيه التلميذ والأستاذ ،وباقي مكونات المجتمع، بدور المعرفة في تغيير الأوضاع الذاتية والمجتمعية.فالتعليم، آنذاك، لم يبق حبيس جدران المدارس، بل امتد إلى اليومي الذي تجسد في الندوة والمحاضرة والشريط السنيمائي، والعروض داخل القسم، حول كتب محددة ،أومواضيع معينة، فضلا عن الأغنية والمكتبة ونوعية المراجع والمصادر،والساعات الإضافية المقدمة بدون مقابل، سوى الرغبة في الإفادة،خاصة أن التعليم كان منفذ الفئات الإجتماعية الموجودة في أسفل السلم، نحو مكان تحت الشمس. وفضلا عن هذا وذاك،كان سلاح اللغة العربية وسيلتنا المثلى لاختراق معاقل العجم، وتمكن جيلنا ، آنذاك، من تعريب أحد معاقلها – النطاق الثقافي- الذي دخلناه دخول الفاتحين.. وظل مصدر اعتزازنا إنزال اللغة العربية من السماء إلى الأرض،بعد أن كان المعتقد في هذه الثانوية ارتباط اللغة بالتهويمات الفارغة، ولغات الجن والشياطين، وهي مجرد فضلة- كما يقول أهل النحو- لا تقدم ولا تؤخر.. أما أن تصبح اللغة العربية، بفضل حماس هذا الجيل، لغة يومية ، تمزج بين التبر والتراب، بين صرصعة الطفل وإشراقات الحكيم… أن تصبح اللغة كذلك، فهذا ما لم يكن يخطر ببال القادمين من ما وراء البحار!!
4- زوم
بين هذا أو ذاك ، كا ن «إدارغة» تلميذا مثل باقي التلاميذ، لكن ذلك لا يمنع الأستاذ من التعامل مع ظواهر محددة تصدر عن هذا التلميذ،أو ذاك.
لم يكن اسثتناء،على المستوى الجسدي، بل كان صاحب قامة أقرب إلى القصر، ولكنها قابلة للتموقع في أي مكان.بياض مشوب بشقرة البوادي قبل أن تكون شقرة المدن « المتبرجزة»،أو المفتعلة.ملامح دقيقة قد تدل على نوع من التحدي ، أو عدم الإستسلام بسهولة…
لكن»إدارغة»- وهذا هوالأهم- كان لا يكف عن السؤال، صامتا أو متكلما. فهو قد يسأل، بين الفينة والأخرى،أو قد يبادر بالجواب ،حينا، وبالقراءة النصية،حينا آخر، و بعد هذا وذاك ،لا يتردد في السؤال دون أن ينبس ببنت شفة.فعيناه تشعان،إلى اليوم،ببريق الرغبة في المعرفة،وإن كانت هذه الأخيرة لم تسلم من شيطنة التلمذة في تلك المرحلة.دعّم هذه الصورة،أيضا،مغالبته للضحكة الوليدة، وهو يستقربجسمه النحيف،وكيانه المرن في إحدى زوايا الفصل الدراسي متيقظ الحواس،لا يكف عن نقل بصره بين المرسل والمتلقي، ولمعان العينين- لمعان الشيطنة والذكاء في آن واحد- لا يغادره في الحل والترحال.
5- لقطة مكبرة بالألوان
غادرت « مدرسة التوباد»- ثانوية المولى إسماعيل- ولم يغادرها الوجدان.ف» مكناسة» حاضرة في الأسبوع الخامس، والشهر الثالث عشر، وفي الساعة الخامسة والعشرين..ففي هذا المكان كانت ولادتي الثانية، بعد أن تعرفت على رفيقة الدرب، في خضم الأحلام الكبيرة التي لم يبتعد عنها تلامذتي- ومنهم طبعا محمد إدارغة- ومعظمهم الآن ، يستمد من تلك المرحلة الزيت والقنديل،في مواقع متعددة،ومنها موقع الممارسة الأدبية التي ابتلي بها صاحبنا « محمدإدارغة».
وأعترف ،منذ البداية، أن متابعتي لكتابات « محمد
إدارغة» الأولى كانت تتسم بنوع من الإنقطاع لأسباب عديدة مهنية،وأكاديمية، إلى أن استوى العود،وأزهر تجارب عديدة في «الببليوغرافيا»، خاصة القصصية،والمتابعة النقدية ،والتعليق الصحفي، والعمل الجمعي- حوارا وتكريما وتأطيرا- وأخيرا ،وليس آخرا، الكتابة القصصية التي سأقف عندها وقفة قصيرة ،من خلال مجموعته المعنونة ب» كسكس الجمعة»- والتي ستصدر قريبا- وما أدراك ما كسكس الجمعة في الذاكرة والتاريخ والوجدان؟.ف» الكسكس» من ( أطعمة الأضداد)- على غرار ألفاظ الأضداد- التي تقدم في الأفراح والأتراح في آن واحد.
المجموعة سرد يترسم فيه الكاتب طريقين متكاملين:
طريق تراثي يستحضر فيه التناسل الحكائي الذي تنفتح فيه الحكاية على الحكاية الموالية مع استرسال دائم في متابعة تحولات الحدث،وردود أفعال الشخصية.
والطريق الثاني يتجسد في محاولة الإنفتاح على نوع من الحداثة القصصية من خلال « الشذرية»، والعنونة المقطعية، وتوليف الموضوعات والمواقف والمسلكيات المرتبطة بالشخصية الواحدة، فضلا عن التناوب السردي بين الشخصية ،من جهة،والكاتب- راويا وشخصية- من جهة ثانية.
ما وراء الكسكس إذن؟
1- تحويل « الكسكس»- بدلالاته الرمزية- إلى مرادف للهوية.
2- اختراق « الكسكس» ،من قبيل:
– العولمة ( تظاهرة أكبر قصعة للكسكس في العالم).
– دور العولمة- إعلاما وإعلانا ورؤية- في تدمير:
أ- الأسرة( الهوية مرة أخرى) التي فضلت فيها ربة البيت تحضير الكسكس» تليفزيونيا» ،من جهة، وتعويض- من جهة ثانية- كسكس الجمعة المقدس بطعام آخر أثار احتجاجات الأبناء،وندم رب الأسرة.
ب- تحويل « الكسكس»- برمزيته- إلى منتوج « فولكلوري» موظف في الإستهلاك السياحي.
وبالإضافة إلى هذا وذاك، ساهم الداخل المتهالك في خدمة الخارج المستأسد. فالداخل دمر أيضا الميثاق الرمزي الذي يجمع بين المواطن ، وبين طعامه الرمزي مجسدا في « الكسكس» الذي وظف في انتخابات زائفة، أو في دروشة لا تغني ولا تسمن من جوع.
الكسكس،إذن،لم يعد حافزا على تمتين الروابط بين الأفراد والجماعات، ولم يعد مناسبة لتجاوز الأحقاد والحسابات الضيقة، ولم يعد تجسيدا لزمن رخي يتقاسم فيه الناس السراء والضراء، لم يعد لاهذا ولا ذاك، بل أصبح أداة لتدمير ما سبق بعد أن أفرغ من دلالاته المادية والرمزية التي كانت وراء هوية ثقافية تعكس التوحد والتضامن والأثرة قبل الإيثار.
في هذه التجربة يسلك السارد سبيل المتكلم، قبل أن يسلك سبيل الكاتب. إنه المتحدث الذي يتابع ما جرى،ويعيد إنتاجه،بأسلوب خاص يقوم على توسيع بؤرة المحكي التي انتشرت في الذاكرة، والممارسة اليومية، والتحولات الإجتماعية والسياسية، كما عكستها الحكاية السابقة.
وفي هذه ا لمجموعة تم التركيز على « البورتريه» الذي يصبح ظاهرة دالة على نشاز مجتمعي حينا، أو تحول مادي،ونوعي، من ناحية أخرى.ولعل هذا ما يفسر الرجوع إلى الصياغة التراثية للشخصية، من خلال توظيف الأسلوب التراثي المتجدد( صاحبنا) الذي يقدم المعلوم والمجهول في آن واحد. معلوم بحكم ارتباطه بالسارد المحايث للشخصية،ومجهول ،من حيث تحوله إلى ظاهرة تصدق على الذي يجسد مواصفاتها المميزة.
من هنا جاء الطابع الساخر في هذه المجموعة التي تناولت موضوعات عديدة من هجرة ومسلكيات زائفة( شخصية المخ مثلا)، وأضرحة لأولياء مفلسين،وذكريات الزمن البعيد،ومظاهر اجتماعية مختلفة…
السخرية،إذن، أسلوب- كما يقول لوكاتش- لتجاوز» تعاسة اللحظة الحاضرة». وهذه التعاسة جعلت السارد في موقع المتابع لمظاهر هذا « السيرك» الكبير الذي لا تتوقف فيه كائناته عن الضحك . لكنه- على حد تعبير المتنبي- « ضحك كالبكاء».
والأدب ،كما نعلم، يشبه ما عبر عنه « لوكاتش» بهذه المقولة العميقة:( انتهى الطريق، ابتدأ السفر).
القنيطرة:09/05/2012.
هامش:
1- الإحالة واضحة على بيت أحمد شوقي حول جبل التوباد ومرابع الفتوة والزمن الرخي.
4/10/2012
عبد الرحيم مؤذن