عبد الرحيم مودن
يحكى أن قصة قصيرة ظلت تسأل دون كلل أو ملل، الغادي و الرائح، الماء و الشجر… الإنسان و الحيوان،…<<لماذا أنا قصيرة؟>> تابع الماء انسيابه، و خشخش الشجر أوراقه، و استمر الغادي في غدوه، و الرائح في رواحه . فلكل كائن همه… و القصر أو الطول يأتي بعد أشياء أخرى… و بالرغم من ذلك، فالقصة القصيرة لم تمل السؤال:<<لماذا أنا قصيرة؟>>.
في هذا الصباح سألت القصة القصيرة السؤال الدائم: لماذا أنا قصيرة؟ ! و كعادتها انتظرت اشتعال الشعاع الأول، و قلمها لا يغادر أناملها .. لو سألتها عن عدد الأشعة لأجابتك بدون تردد أو بالعدد التام غير المنقوص. و هذا ما حير جارتها التي كانت تجفف شعرها- بعد الدوش الصباحي- بأبعد شعاع دون أن تعرف عدد الأشعة ! <<أفعى قرطيطة تعرف عدد هذه الأشعة، و أنا الفارعة الطول إلى ما وراء الشمس أجهل كل شيء ! ! >> .ذلك ما كانت تردده جارتها كل صباح..
هذا الصباح، لم تغادر القصة القصيرة فراشها. و ظلت قابعة في مكانها لا تريم ! فجأة، ارتفع صوتها، بنبرة احتجاجية، ارتجت لها جدران الغرفة: <<لماذا أنا قصيرة؟>>.
تكومت في الفراش، و قررت أن لا تغادر الغرفة. و في هذه الأثناء بلغها هسيس نعل جدتها، و هي تتجه نحو سجادة الصلاة في ركن الأسطوان الأيمن. جرت القدماليسرى أولا، ثم جرت القدم اليمنى ..جرة ثم وقفة، جرة، وقفة. الوقفة الأخيرة يتلوها صياح الديك .. الصيحة الثانية بالضبط، فهي أكثر امتدادا ..ظلت قابعة في الفراش، و أخذت تشاء بصوت ناعس، و هي تجدب الغطاء نحو صدرها، و ظل الغطاء يمتد بدون توقف نحو القدمين، و سال على جانبي السرير، و حاولت <<القصة القصيرة>> لملمة أطرافه، ولكن دون جدوى… و جذبته، من جديد نحو الأعلى، و لكن الغطاء ازداد طولا دون أن يتوقف عن السيلان و كأنه خارج من جوف الأرض .. أحست بالتعب، فرست به جانبا و هي تزفر بغيظ: لو لا قصري هذا و لم تكمل، و ألقت برأسها إلى الوراء، وراء هضاب و كثبان بنية اللون مثل لون الغطاء الذي ارتفع وراء ظهرها مرتفعات مختلفة الألوان و الأحجام.. و صعدت ربوة عالية، و تسنمت أخرى أعلى منها قليلا إلى أن أشرفت على بيت جارتها البغيض.. و كانت، كلما ارتفعت إحدى الربوات أو الهضاب، ارتفعت أمامها هضاب و ربوات أخرى.. و ظلت تتقدم دون عياء .. و تمنت في هذه اللحظة أن تصل إلى بيت أمها المختفي وراء هضبة تشبه الهضبة الحالية.. و غزت أنفها رائحة القهوة بالحليب .. و ابتسمت عندما تذكرت سؤال جارتها الدائم:<<لماذا قهوة أمك لذيذة دائما؟ ! >>.
– هل تريدين معرفة السر؟
– …..
– الحليب حليب. اتفقنا الحليب هو الحليب…
– اتفقنا.
توقفت القصة القصيرة عن الكلام، و هي تتأمل قنة هضبة شبيهة ب <<تورتة>> أعياد الميلاد .. كان جسمها الإسفنجي بصفرته الذهبية، و إكليله المستدير بخطين متوالازيين أحدهما أبيض و الآخر محمر بلون الكرز.. و كأس القهوة بالحليب لا يحلو إلا مع قطعة شهية من هذه <<التورتة>> و لكن، هاهي <<التورتة>> تغور بالتدريج، بطنها الغائر كأنه لم يكن، منذ وهلة، مورد الأوداج.
– قلت لك .. الحليب هو الحليب.. و الحكمة.. الحكمة.. إسمعي جيدا.. الحكمة، في عدد قطرات القهوة
– كم عددها؟
– هذه هي الحكمة.
كركرت القصة القصيرة عاليا، و هي تردد بصوتها لضاحك: <<الحكمة هي الحكمة>> و غادرت المكان مسرعة.. أما الجارة فقد وضعت يدها على خدها و هي تتابع ضفائر القصة القصيرة المتراقصة <<هذه المدللة، آخر العنقود و كأنها ولدت منذ قرون>>.
مسدت القصة الغطاء، و سوت حوافه المصنوعة من أطلس لامع. و توارت الجبال و الهضاب و امتد الغطاء مبسطا أمام القصة القصيرة، فأحست هذه الأخيرة بأارتياح مفاجئ فلم تتردد في التقاط وسادتها الأثيرة، و أسندت ظهرها إلى الجدار بعد أن مدت ساقيها بارتخاء.. امتدت يدها إلى الجريدة الموضوعة فوق <<لاكومود>>، و اتجهت مباشرة إلى الصفحة الأخيرة.. كان أعلى الصفحة يحمل صورة القصة القصيرة بإحدى الندوات الكثيرة هذه الأيام.. حاولت القصة القصيرة تغيير جلستها، فاصطدم رأسها ببلاط السيراميك الذي شغل نصف الصفحة.. و حاولت تحريك رأسها في كل الجهات، فاصطدمت بعلبة كارتونية تشهر زيتا يقاوم <<الكولسترول>>، و حاولت التحرك يسارا، فأسقطت د زينة صحون خزفية، فانبعثت خشخشة حادة من الصحيفة التي انطوت على نفسها، و سقطت من <<لاكومود>> بصمت. و لم يكن أمام القصة القصيرة إلا مغادرة الفراش، فمدت رجليها الحافيتين، فانبعثت من الأسفل غرغرة ماء صادر عن الكارت بوستال بالألوان لواحة من واحات الجنوب. عادت القصة القصيرة إلى وضعها الأول، و تكو مت على نفسها، و أحست بحزن مفاجئ. <<لو لم أكن قصيرة، لما تجرأ علي الزليج و الزيت و الصحون>> .. رددت بصوت هامس، غير انها ما لبثت ان صرخت بأعلى صوتها: لماذا أنا قصيرة؟ دفعت القصةالقصيرة الصحيفة بعيدا، و رفست الغطاء، و اتجهت نحو مرآة الصوان مشرئبة بعنقها إلى الأعلى.. <<أنا قصيرة، قصيرة أكثر مما أظن>> . صعدت فوق الكرسي في مواجهة المرآة، فانعكس نصفها السفلي، و اختفى النصف العلوي.<<أنا الآن طويلة.. طويلة أكثر مما أظن>> عيناي بركبتي.. نزلت من الكرسي،و اقتعدت الأرض، فبدا لها السقف و كأنه السماء السابعة اعتلت الفراش، فأحست بالغثيان إلى أن قاربت السقوط، و في هذه الأثناء تناهى إلى سمعها نداء الأم لتناول طعام الفطور بعد أن انتهت الأم من صب آخر قطرة من القهوة السوداء الفواحة بعطر القرفة بعد أن عمت الحجرة، و بلغها سمعها أيضا الرنة الصامتة لحبات مسبحة الجدة اللبانية، و وصوص طائرها الأثير مستعجلا حضورها في هذه الوقت بالذات. فهو لا يأكل إلا من يدها و لو منحوه مخزن غلال كامل و ماء القط، فهو الآن يلعق شاربه منتظرا حصته اليومية من الحليب .. و أشعل الأب المذياع في اللحظة التي بدأت فيها الأخبار الأولى، و صرخت الجارة في أطفالها التسعة الذين ينهضون دفعة واحدة، و في وقت واحد، و في هذه الأثناء أنت دراجة أقدم عامل بالحومة، و هو يخرق الدرب مبسملا محو قلا .. و تبعته شاحنة توزع الحليب، فشاحنة أنابيب الغاز، و آخر الشاحنات كانت شاحنة المشروبات الغازية.. إذ ذاك، سألت القصة القصيرة بمرح: هل أنا قصة قصيرة؟ أم …