عبد الهادي الزوهري
واصل القاص والناقد الدكتور “عبد الرحيم مودن” مشروعه الإبداعي، الموجه إلى طفولتنا المغربية- العربية بهمة اجتراح الأسئلة الإبداعية، وجرأة تجريب الأشكال الفنية، التي تثري مشروع الكتابة الطفلية ببلادنا، من خلال قصته الجديدة: «السمكة والأميرال».
وليس في الأمر شيئا عُجابا، فالقاص “عبد الرحيم مودن” قادم من عوالم القصة القصيرة، وإحدى علاماتها في نتاجنا السردي، وهو فضلا عن ذلك، باحث أكاديمي يمارس النقد تدريسا وتنظيرا.
انطلاقا من هذه العتبة/ المدخل، لا مندوحة من التذكير بنتاجات “عبد الرحيم مودن” في مجال الكتابة الطفلية ك : قصة “طار-زاد” (1988)، و”مغامرات ابن بطوطة” (9 أجزاء)، و”رحلة ابن بطوطة الجديدة” (1999)، و”رحلات مغربية وعربية” (12 جزء) (2000)، وما صاحب هذه الإبداعات – وخصوصا المستوحاةمن فضاءات أدب الرحلة- من بحث أكاديمي وتأصيل نظري -ولاغرو أنه من فضاء الرحلةهذا تولدت فكرة كتابةهذه القصة.
وهي قصة مشكولة، تتكون من تسع وثلاثين صفحة، طولها 25,5 وعرضها 14,7، تتخللها رسومات بالأبيض والأسود، موجهة للفتيان.
مكونات العنوان: يتكون العنوان من اسمين معرفين هما : السمكة متبوعة بالأميرال والرابط بينهما واو العطف، والاسمان معا، يحيلان إلى فضاءات البحار والأنهار العميقة الغور؛ بما تثيره في نفس المتلقي من مغامرات ومخاطرات.
إن عنوان القصة هو بمثابة إعلان: “annonce”؛ إذ نحن «لا نقرأ في البداية النص وإنما عنوانه أو عنوان صاحبه، وبما أن العنوان هو الاسم الشخصي المميز للنص، فاسم صاحبه لا يكون سوى يافطة تخييلية تنسحب لتترك العنوان يواجهنا، يتسلل إلى النص ويرتبط بخيوط تشابكه»(3).
الشخصية في «السمكة والأميرال»: إن عنوان القصة التي بين أيدينا يبئر السمكة، باعتبارها شخصية رئيسية، تتلوها شخصية أخرى، هي الأميرال، والعلاقة بين الشخصيتين هي علاقة المعطوف بالمعطوف عليه في مجال التركيب. وإذا تجاوزنا ميدان المفاهيم النحوية العطفية «الخادعة» على صعيد العنوان فماذا سنكتشف؟
هل العلاقات القائمة بين الأميرال والسمكة، علاقات «تابع» «بمتبوع»؟ أم أن تلك العلاقات تشي بالتهكم، إذ تجمع بين أمير للبحر، بكل ما للإمارة من أبهة وسلطان من جهة، ليلتقي، من جهة ثانية بسمكة! مجرد سمكة لا أقل ولا أكثر!!
وإذا قمنا بتمرد دلالي على العلاقة النحوية التي تحصر طرفي العنوان في «العطف»؛ فسيمدنا النص بدلالة تتناقض و«العطف» كعلاقة وجدانية؛ لتتحول إلى علاقة عدائية قائمة على صراع درامي دائم بين الأميرال والسمكة.
فلنتفحص هذه العلاقة، ولنبحث عن أسبابها مكتشفين «أسرارها» من خلال التحليل النصي.
ففضاء الشخصيتين هو الماء، بحرا أو نهرا. فكيف تقدم الحكاية ارتباط كل شخصية منهما بالماء؟ ما مزاج كل منهما؟ من منهما المشهورة؟ ومن هي المغمورة؟ وما هي درجة العداء بينهما؟
يتحدد عمر السمكة بعمر الماء : «عمري عمر الماء ولدت يوم ولد الماء. من أين سأبدأ حكايتي، والماء لا بداية له ولا نهاية!!» ص:3.
بهذه الجملة الاسمية التي تنتهي بعلامتي تعجب تبدأ الحكاية التي تبغي تثبيت عراقة هذه السمكة. فالسمكة كما تقول عن نفسها : «أنا والماء سيان» ص:5.
وانطلاقا من ذلك فإن الماء يمنحها سلطة الحكي، لتغدو «راوية» حكاية «السمكة والأميرال».
أما الأميرال «حانون» فهو و«البحر توأمان» ص:14، لا يغادر الماء في كل الأحوال، وحاله كحال السمكة إذا انفصلت عن الماء ماتت. وهنا مكمن الصراع بين الشخصيتين. «فإذا كان فراش الناس من صوف أو تبن أو شجر، ففراش «حانون» من ماء لا يغادره ليل نهار، في حالة الحرب أو السلم… فراشه مثل صهوة الفارس. هذا يركب الجواد، وحانون يركب السفينة تلو السفينة» ص:8.
فهل تكشف السمكة/ الراوية بنفسها منذ البداية، عن طاقاتها وإمكاناتها؟ وكيف تقدم إلينا من طرف الشخصيات الأخرى؟
تقدم السمكة ذاتها بتواضع جم: «أنا مجرد سمكة مسكينة من بين أسماك لاعد لها ولا حصر، لست في شهرة سمك القرش… لست في قدرة الأخطبوط… أنا مجرد سمكة مسالمة لا تعرف إلا الماء…» ص:3 و4.
أما الشخصية المقابلة لها، فهي شخصية امبراطور الشرق والغرب القرطاجي “الأمير حانون”: «فرتبة الأميرال لم تمنح له عبثا، بل إنه نالها عن جدارة واستحقاق»، هو شخصية مشهورة، وهي شخصية مغمورة، هو شخصية عنيفة ومستبدة.. يبدو ذلك من نبرات صوته، أو إشاراته، أو أوامره، أو شتائمه بل يتجلى ذلك في مجمل أفعاله ومسلكياته (والنص يحبل بالعديد من التأكيدات على ذلك ص:10، 11، 12، 20، 22، 27، 29…).
أما هي فلا تحمل «حقدا ولا ضغينة لكائن من كائنات هذا العالم»ص:5.
إذن هما شخصيتان نقيضتان ظاهريا على الأقل.
فهل صحيح ما تدعيه السمكة من كونها مسالمة، لا شهرة لها، وأنها لا تعرف سوى لغة الماء؟
إن الشخصية لا تعرف من أقوالها وأفعالها فقط، بل تعرف أيضا مما تقوله عنها الشخصيات الأخرى.
فلنتتبع نظرة الأميرال: «القائد العظيم الذي دوخ العالم وحارب في كل البحار» ص:14. إلى هذه الشخصية المسالمة المغمورة!!
إنه يعتبرها منذ البداية عدوة له: «قوتها تفوق قوة البشر والحيوانات الكاسرة والسفن المدججة بالمدافع والرجال الأشداء!! يالها من مهزلة!!» ص:13، فلئن كان هو الامبراطور المعظم لفينيقيا، فهي صانعة الحضارات، والمسؤولة عن تدهورها «بسببي قامت حضارات وسقطت حضارات»ص:26.
أليس التضعيف الاسمي للشابل لغويا، على الأقل، يعني هذه السمكة الباذخة التي ينحت اسمها من مادة (شَبَلَ) التي تعني شبَّ في نعمة، فهي شابل، وهي الأنثى القادمة من عالم السعادة، أو من معنى شبلت المرأة: حنت على أولادها بعد موت زوجها(4)!
و دلالة الحب هذه موجودة في ثنايا القصة: «وسمك الشابلوس يعشق أبناءه لحد الجنون، فيقطع من أجلهم آلاف الأميال، والعديد من المحيطات والبحار ليصل إلى المياه العذبة.. هنا يرضعهم مياهها الرائقة…» ص:24.
وإذا كان الإمبراطور يمتلك القوة والبأس الشديدين، فهي بدورها لها من الأسلحة المضادة ما يكفي مثل: الذكاء، والخداع، والسرعة باعتراف الامبراطور حانون نفسه، ص:26.
وفي النهاية، وبرغم وقوع الشابل أو الشابلوس في شباك صيادي الامبراطور، الذين اصطادوه بطريقة فظة طيلة أربعة أشهر، وبرغم ذلك كله؛ فإن سمكة الشابل ستقض مضجع الامبراطور ساخرة منه في اليقظة كما في الحلم؛ حيث تشكل له في أحايين عديدة كوابيس مزعجة في ذروة تعقد أحداث الحكاية (ص:34، 35، 36).
إن هذه القوة لا تستمدها – أي السمكة- من قدراتها الفائقة التي يتحدث عنها المؤرخ (ص:23، 24، 25، 26) والامبراطور – وهي بارزة في أقوالها المغلفة «بالتواضع». في كثير من الأحيان- بل تستمدها أيضا من الرسوم إذ أن صورتها، وهي تتحدى الأميرال في الغلاف الأمامي للقصة، وحضورها البارز في الغلاف الأخير، وهيمنتها على فضاء صفحات القصة منذ بدايتها إلى نهايتها يؤكد ما ذهبنا إليه.
فمن أصل خمس عشرة صورة، توجد في أربع عشرة منها، تنتهي بصورة في خاتمة القصة كتب أسفلها: «قطعة نقدية لحانون وجدت في سمك الشابل» ص:39.
التاريخ وحكاية الأطفال: تمتح الكتابة الطفلية مقومات وجودها من مجالات متعددة، وتنهل من تجارب مختلفة، سواء في المجالات الاجتماعية، أو الثقافية، أو التربوية، أو التاريخية، ويمكن أن يكون التاريخ منبعا للكتابة الطفلية.
من هنا نلحظ توظيف كُتَّاب الأطفال المغاربة لهذا الموضوع بأشكال متباينة بحسب الرؤية الإبداعية والثقافية، ومدى امتلاك الخبرة الفنية لدى كل واحد منهم. فسلسلة «قصص تاريخ المغرب الأقصى» وما تحمله من أخطاء معرفية(5)، ليست هي نفس القصص التي تصدر عن منشورات المندوبية السامية للمقاومة وجيش التحرير(6)؛ كما أنها لا تعالج نفس المرحلة التاريخية.
ومن التاريخ ذاته، كمنبع ثر للكتابة، نهل عبد الرحيم مودن مادته الأولية لقصته «السمكة والأميرال» من تاريخ فينقيا خلال القرن الخامس قبل الميلاد، وأطرها بالرحلة كـ (تكنيك)؛ استمده بلاريب من اشتغاله الشغوف بهذا اللون من الأدب تنظيرا وإبداعا، بعد اندغام كل ذلك في المتخيل الإبداعي للمؤلف. وهكذا نجد في القصة إحالات إيهامية شتى على المرحلة التاريخية السحيقة التي توظفها والمناطق المرتبطة بتاريخنا الوطني.
فبالنسبة للمرحلة التاريخية نجد: « كان ذلك في زمن سحيق لعله القرن الخامس قبل الميلاد، قرن فينيقيا، سيدة البحار والأنهار، وكان أسطول الفينيقيين… لا أول له ولا آخر إلى الحد الذي لم يعد هناك مكان للماء…»ص:5.
- وبالنسبة للمناطق المرتبطة بالتاريخ الوطني: ورد في القصة: «أخذ الأميرال يتابع باهتمام خطا أحمرا بدأ بـ«طنجة» واتجه نحو «ليكسوس» أو العرائش حاليا…» ص:8 – وجاء في النص الحكائي على لسان «حانون» «فكرت طويلا في الاسم الذي سنطلقه على هذا المكان سنبني مدينة اسمها تيماتيريا» ص:18 أي المهدية كما تُسمى اليوم.
ولئن كانت قصة «السمكة والأميرال» تشير إلى احتمال واقعيتها من خلال الاحالات التي تستمد أهم مقوماتها من واقعنا المغربي وتاريخه، ومكانيا من فضاءات العرائش، المهدية، طنجة، المعمورة، وزمانيا من القرن الخامس قبل الميلاد… فإن مكونات أخرى ترتبط بالشخصيات وممارساتها تبغي تأكيد المتخيل: «وهكذا نستنتج أن المتخيل عندما ينقل إلى عالم الحكي يصبح متخيلا. وهنا يبدو لنا أن كون المحكي ينقلنا من الواقع إلى المتخيل ومن المتخيل إلى الواقع بواسطة اللغة وفي إطار الميثاق السردي الذي يتعاقد عليه الراوي والمروي له»(7).
ومن أجل أن تعالج قصة «السمكة والأميرال» تلك المادة التاريخية – الواقعي منها والمتخيل- المشار إليها أعلاه، فإنها قدمت فضاء مناسبا لتلك الأحداث الموغلة في الزمن البعيد، موظفة لغة تعبق بأريج الماضي التليد؛ كالاقتباس الجلي من القولة الشهيرة لطارق بن زياد: «العدو أمامكم والبحر وراءكم…» لتصبح: «الذهب أمامكم والذهب وراءكم» ص:30.
- أو الاقتباس من عبارة امرئ القيس الشهيرة «اليوم خمرٌ وغدا أمر» لتغدو: «اليوم حفل وغدا حفل» ص:6.
- أو الاتكاء على بعض المحسنات البديعية التي تصف أحداث القصة: «كل نصر بكرنفال!!. وما أكثر الانتصارات!! وما أكثر الكرنفالات!! حفل وراء حفل. عشرات الأقوام الصفر والحمر والسود والسمر والبيض. شعوب من كل أنحاء الأرض» ص:6.
- أو من تشبيهات تستحضر فضاء القصة وتلائم أجواءها التاريخية مثل: «أمتشق خنجره الفضي بقبضته العاجية المنحوتة على شكل رأس امرأة قرطاجية، تدلى من أذنيها قرطان شبيهان بهلالين كبيرين» ص:9، 10.
- «كانت مقدمة السفينة تشبه النصف العلوي لـ «ديناصور» منحوت من خشب العرعار» ص:16.
- «فبدت الأجساد مثل الموميات أو التوابيت القديمة» ص:34.
إن هذا التقطيع الذي قمنا به، في جسد القصة: «لا يفعل أكثر من العودة بالنص الذي يقدم نفسه على أنه «متجانس» و «توحيدي» إلى طبيعته الأولى، تناصيته من حيث إنه ترحال للنصوص وتداخل نصي»(8).
إلا أن هذه الخصيصة اللغوية المطابقة لتلك الحقبة التاريخية؛ ليست هي المهيمنة على جسد القصة فقط، بل إلى جانب ذلك تحمل القصة في حناياها – بشكل جدلي- لغة معاصرة، نحتت قاموسها من زمن كتابة القصة، ومن جسد مؤلفها، ويظهر ذلك بصورة واضحة في التحيين الذي يقوم به السارد من وقت لآخر. - «أسطول متراص يبدأ من صيدون أو صيدا كما نسميها الآن»ص:5.
- «وأخذ الأميرال يتابع باهتمام خطا أحمر بدأ بـ«طنجة» واتجه نحو ليكسوس أو العرائش حاليا» ص:8.
الخطاب التربوي والخُلُقي في «السمكة والأميرال»: لما كانت بعض الحكايات الموجهة للأطفال، لا تتحرج من تقديم «درسها» الخلقي إلى المتلقي؛ بشكل مباشر في موضوع حساس كـ «حماية البيئة والمحافظة عليها» كما تمثل لذلك حكاية : «زياد ولصوص البحر»(9) للأستاذ أحمد عبد السلام البقالي، فإن حكايات أخرى لا تسلك هذا المنحى وتعتبره غير ذي جدوى، لأن التوجيه التربوي المباشر، قد يؤدي إلى نتائج عكسية، وقد تتحول بموجبه قصص الأطفال إلى «واجبات مدرسية» مما ينفي عنها صِفَتَيْ «الإبداعية والمتعة»(10).
وعلى النقيض من هذا المتجه، ففي اعتقادنا، أن قصة «السمكة والأميرال» قد عالجت موضوع البيئة والمحافظة عليها، بطريقة إبداعية ذكية، وبمتعة فنية تفرض على المتلقي – بغض النظر عن الفئة المستهدفة- بذل مجهود لاستكناه عوالم النص، وما يطرحه من قضايا عصرنا وبيئتنا، فامبراطور الأمس، “حانون” الذي يأتي اسمه على وزن «فاعول» كصيغة لاسم الآلة، هو آلة مدمرة تبيد سمك الشابل في التاريخ الإيهامي الذي عالجته القصة، ولكنه استمرار لما يمكن نعته بـ«الحانونيين الجدد» المبددين لثرواتنا الطبيعية برا وبحرا، وفي مقدمتها ثروات سمك “الشابل” رمز النعمة والسعادة، والذي لم يبق منه للمغاربة القاطنين على ضفتي نهر “سبو”، سوى رائحة جميلة تدل على ذكرى هاربة.
الخصائص الكتابية في «السمكة والأميرال»: تتميز الخصائص الكتابية لهذه القصة بتداخل السراد، وتناوبهم في الحكي، فإذا كانت مقدمة هذه الحكاية تبتدئ بضمير «الأنا» للراوية السمكة، وهذا لعمري من خصائص الحكي الشفوي، الذي يعتمد على السند : «حكايتي هي حكاية الماء، سأروي لكم ما حكاه الماء، سأروي لكم حكايتي مع الماء، حكايتي مع المائين…» ص:5.
وما ينبغي تسجيله بهذا الصدد، هو توحد الشخوص الرئيسية في قصص “عبد الرحيم مودن” حول ضمير المفرد المتكلم «أنا» نلمس ذلك من «طارزاد»(11)، و«رحلات ابن بطوطة»؛ إلا أن ضمير «أنا» يتراجع داخل النص ليفسح المجال لضمير الغائب : «هو» الذي يصلح للحديث عن الرحلة، ومراحلها، ومختلف محطاتها.
كما أن موضوعات الرحلة وعجائبها، ومحاولة تحيين معارفنا حولها؛ تتطلب مخاطبة المروي له؛ بشكل مباشر وربط أحداث الماضي بالحاضر، لإشراك المتلقي إشراكا مباشرا في عملية الحكي.
واللافت للنظر أن تعدد الرؤيات السردية داخل جسد هذه الحكاية(12)، يتساوق وتداخل أمواج البحر المتوسط بالمحيط الأطلسي مع مياه نهر “سبو”، كما يتداخل تاريخ تيماتيريا قديما؛ مع تاريخ المهدية راهنا، وينصهر كل ذلك في أصوات العبيد، والجنود، والصيادين، ومساعدي الأميرال.
ويمتد الزمن في الحكاية من القرن الخامس قبل الميلاد إلى المرحلة الراهنة، مرحلة القضاء على سمك “الشابل”، في نهاية القرن الماضي (كزمن للقصة)؛ ليتحدد في أربعة أشهر إلى ستة : بأيامها ولياليها الطويلة التي تستغرقها بداية رحلة «حانون»، وصيده الوحشي لسمكة الشابل (منذ بداية الخريف إلى بداية فصل الربيع) (كزمن للخطاب).
إن هذا التداخل والامتداد ذهابا وإيابا؛ يفسر بتقنيات ضبط الزمن المعتمدة في النص الحكائي، كالاستباق الذي يوظف من أجل حلم الأميرال، وإثارة مشاعره التوسعية في سيطرته على الثروة الذهبية لسمك الشابل، أو الاسترجاع الذي يوظف لربط تاريخ حروب الأميرال البحرية، بما هو عازم عليه من تحديات.
كما أن انتشار المونولوجات العديدة للأميرال في ثنايا النص القصصي؛ أمست تعبر عن هواجسه، وتخوفاته من سمكة الشابل، وذكائها الذي يساعدها على الانفلات من شباك صياديه.
وهذه المونولوجات تتداخل وحوار الأميرال مع جنده مبررة جبروته وسلطته.
إن هذا الامتداد والتداخل، هو ما يمكن أن نسميه بالتضمين Enchâssement كشكل من أشكال الحكي، فالقصة الأساس تستوعب ضمنها قصة هرقل (ص:5) الذي رفع على كتفيه القويتين أوروبا من جهة، وإفريقيا من جهة أخرى. وتنبجس منها قصة المدينة الايطالية «بومبي» حيث تجمد سكانها ذات صباح؛ بعد أن غمرت شوارعها سيول بركانية (ص:36).
بل إن هذا التضمين قد يأخذ أشكالا تعبيرية مختلفة مثل: تداخل اليقظة والحلم، وتداخل الحكايات داخل الحكاية الواحدة (المؤرخ الذي يحكي…).
إن هذا التداخل والامتداد في الحكي، شبيه بدائرة الماء التي تتوسع إلى دوائر كلما ألقينا فيها حجرا.
وهذا التداخل أيضا، يتوافق واللغة التي نسجت رداء الحكاية وكسوتها. فهي تجمع بين التراثي والمعاصر، في الشكل المتخيل للبناء التكنيكي لهذه الحكاية: (السمكة الراوية وتداخل الرواة)، أو من خلل بلاغة اللغة التعبيرية: (التشبيه، السجع، الطباق…) وهي تناسب الفضاء التاريخي لرحلة «حانون»، دون أن تتخلى عن معاصرتها، وحداثتها بما يتلاءم والخطاب التربوي الذي تدعو إليه. وهو الحفاظ على الشابل، وإدانة الصيد المتوحش الذي مارسته شخصية “حانون”، ويمارسه «الحانونيون الجدد» على ثرواتنا السمكية؛ باعتبار شخصية “حانون” قابلة للإضافة والاتساع في ذهن المتلقي.
إن الكتابة في «السمكة والأميرال»؛ لا تقدم نفسها إلى المتلقي بسهولة ويسر، كما يتبادر إلى الذهن منذ الوهلة الأولى، وربما هذا صادر عن اقتناع مؤلفها بذلك؛ وهو يشير إليه صراحة في مقالته القيمة «الأطفال والأدب»(13).
الهوامش
1) عبد الرحيم مودن : أدبية الرحلة. دار الثقافة، البيضاء، ط1، 1996.
2) عبد الرحيم مودن : السمكة والأميرال. القنيطرة، ط1، 2002.
3) فريد الزاهي: الحكاية والمتخيل، إفريقيا الشرق، ط1، 1999، ص11:.
4) المعجم الوسيط، ج1، المكتبة العلمية، طهران، بدون تاريخ، مادة «شبل» ص:474.
5) العلم الثقافي بتاريخ 22/11/1997.
6) مثل «طريق الحرية» لمبارك ربيع، أو «علال بن عبد الله» لأحمد عبد السلام البقالي.
7) سعيد يقطين: القراءة والتجربة، دار الثقافة، البيضاء، ط1، 1985، ص:214، 215.
8) حسن نجمي: شعرية الفضاء: المتخيل والهوية في الرواية العربية، المركز الثقافي العربي، البيضاء، ط1، 2002، ص:96.
9) قصص البقالي أحمد عبد السلام للفتيان والفتيات: «زياد ولصوص البحر» دار الثقافة، البيضاء، ط1، 1996.
10) العلم الثقافي: 22/11/1997.
11) «اسمي طار-زاد» مثل «شهرزاد» و«بهزاد». «شهرزاد تحكي وبهزاد يرسم، وأنا أطير» حكايات «طار-زاد» منشورات دار الأطفال، البيضاء، ط1، 1988، ص:3.
12) نستعمل مصطلح الحكاية لأنه يتضمن مفهوم القصة سواء أكانت شفوية أم مكتوبة: انظر: كتابنا: تحليل الخطاب في حكاية الأطفال، الرباط، ط1، 2003، ص: 11، 12.
13) العلم الثقافي: 22/11/1997.
عبد الهادي الزوهري