أحمد زنيبر
يواصل الكاتب المغربي عبد الرحيم مؤدن مؤدن مسيرت ته الأدبية، في مجال الكتابة النقدية والإبداعية على حد سواء، مما يغني الساحة | سواء، مما يغني الساحة الثقافية و ويسهم في ربط جسر التواصل مع ويسهم في المتلقي . فبعد سلسلة من إصداراته القصصية، نذكر منها “طار زاد” و ” أزهار الصمت ” و ” تلك قصة أخرى ” و “رحلة ابن بطوطة الجديدة ” . وغيرها، يضيف الكاتب إلى رصيده الإبداعي مجموعة قصصية جديدة اختار لها طاحونة الملح ” عنوانا دالا ومدلولا . ولعل في هذا الإصدار ما يؤكد رغبة الكاتب في ترسيخ هذا الجنس الأدبي القصة القصيرة)، من جهة، وفي تأكيد مكانته الأدبية ضمن المشهد الثقافي المغربي العام، من جهة ثانية . فماذا عن هذه المجموعة القصصية؟ وما الجديد الذي تقدمه موضوعة وبناء؟ وبالتالي إلى أي حد يمكن الحديث عن قيمة فنية مضافة في هذا العمل ؟
تحتضن مجموعة طاحونة الملح ” ثمانية نصوص قصصية ذات عناوين موحية ، على التوالي : المجذوب / ويكا /أل “للتعريف ” / ثلاثة ضبابية في ركن ذاكرة / حكاية كل يوم كاتب عمومي / أل “بوش ” / طاحونة الملح. وهي نصوص تباينت موضوعاتها من حيث الطرح والتركيب، كما تفاوت حجمها من حيث المساحة الورقية التي تشغلها كل قصة على حدة. ففي الوقت الذي امتدت فيه قصة “المجذوب ” ، مثلا، وهي أول نص في المجموعة، على اثنتي عشرة صفحة ، لم تتجاوز قصة ” حكاية كل يوم” ثلاث صفحات .
وهذا التفاوت الورقي انعكس بشكل تلقائي على مستوى المادة الحكائية المقترحة، من جهة، وعلى مستوى الصياغة والبناء، من جهة ثانية ومن ثمة، لم يكن غريبا أن نصادف نصا قصصا تقليديا، بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، حيث انتظام الحكاية في الثلاثية المعروفة المتداولة نقديا : بداية، وسط ثم نهاية، بما في ذلك الحديث عن عنصري العقدة والحل ، أو نصادف نصا قصصيا مغايرا يراهن على التجريب من خلال استخدام تقنيات السرد الحديثة، وتوظيف مختلف الأساليب التي تعمل على مفاجأة أفق انتظار المتلقي
أما الموضوعات التي طرقتها المجموعة فتستمد شرعيتها القصصية من اليومي والهامشي، تارة، ومن الذاكرة والمتخيل تارة أخرى . فالكاتب عبد الرحيم مؤدن يتخذ لنفسه، عبر الحكاية، مواقف وآراء مختلفة تبعا للتجربة المفترضة وسياق المرحلة التي تحتضنها فنيا، وذلك من خلال عرض أفكار ومقترحات تمس الواقع الإنساني، في أبعاده وامتداداته وفي تلميحاته وتصريحاته. وهكذا تلفت ” طاحونة الملح” انتباه القارئ إلى بعض الأسئلة العالقة حيال الكون والإنسان والأشياء، من ذلك سؤال الذات والهوية، مثلما نجد في قصة (أل) “للتعريف ” التي تدور أحداثها حول ورقة إدارية بها خطأ في كتابة الاسم ؛ مما استلزم من المعني بالأمر العودة إلى مكتب الحالة المدنية لتصحيح ذلك :
معذرة يا سيدي، الظروف هي التي دفعتني إلى المجيء مرة أخرى، فالورقة” ينقصها شيء معين ..
– وما هو هذا الشيء المعين؟
انتزع الكاتب الورقة من يد العامل الذي بقي فمه منفرجا عن كلمات جنينية لم تنطق بعد
كان الكاتب يمسح بعينيه الأحرف الموجودة أمامه : الاسم : مصطفى بن علي، تاريخ الازدياد 1950 ، مكان . . .
– أين هو الخطأ إذن؟ أليس هذا هو اسم ابنك ؟
– نعم سيدي اسمه مصطفى، ولكنه في الحالة المدنية” -كما قال لي مدير الشركة – بأن اسمه الحقيقي هو : “المصطفى ” . وقال لي – سامحه الله – إنه ليس ابنك . . . الورقة مزورة !!! ] (ص 23/22.
ولما يفلح الرجل في تصحيح اسم ولده على الورقة المعلومة، في الوقت المناسب وجد نفسه خارج المكتب يلعن في سره كافة الأسماء
وانطلاقا من سؤال الهوية، دائما ، يوجه الكاتب عناية القارئ إلى بعض الأسماء التي تحولت بفعل التداول والأحداث العابرة واليومية، إلى لغز وعلامة استفهام في الأذهان الكبيرة منها ،والصغيرة، وهو ما يسمح بتمرير خطاب المجموعة، في أبعاده السياسية والاجتماعية والتربوية والنفسية ،أيضا عبر لغة أخاذة تستقي معجمها الدلالي والرمزي من مواطن مرجعية متعددة ومختلفة، مثلما نجد في هذا المقطع القصصي الذي يقوم على الحوار دليلا :
– [ ألست جوعانا يا طفلي العزيز؟
كلا، إني أحارب ” البوش ” .
ابتسمت الجدة في حماس وقالت بصوت ضاحك :
– نعم، قاتل ” البوش يا طفلي . ولا تبق منهم أحدا على وجه الأرض.
فرفع الكاتب رأسه مستغربا لهذه الكلمة :
– البوش” من هم ” البوش ؟
– يوجدون في كل زمان ومكان، كل عدو هو “بوش ” .
هز الكاتب رأسه موافقا وهو يتابع حركة الجدة الدائرية، دون أن يتوقف لسانها عن الكلام :
. يوجدون في البر والبحر، ويذهبون إلى المساجد والكنائس، ويتكلمون كل اللغات، بل يقرؤون القرآن ويلبسون الجلابيب، ويأكلون باليمني.
أطرقت المرأة قليلا ولم يسعفها علمها المحدود، فبادر الكاتب إلى القول وهو يدني منه الطفل الصغير .
– هم كل الأعداء . ] (ص 43/42) .
ويستوقفنا داخل المجموعة، إضافة إلى ما سبق، سؤال آخر يتعلق بسؤال الذاكرة في علاقتها بالزمن وما يعتري الذات الإنسانية من حنين إلى ما مضى وانقضى، باعتباره مرحلة تمتد في الحاضر ،وإليه عبر التشابه حينا، أو التماثل، حينا آخر، كما في نص (ويكا) مثلا، حيث الحوار، مرة ثانية بين السارد وصاحبه حول فترة من الفترات التاريخية كلحظة عابرة في الزمان والمكان أيضا، وبالتالي الإشارة إلى مواقفهما المتباينة إزاءها :
قلت ” أتذكر ” ويكا : ؟ !
قال ” أتمزح ؟ ! من منا لا يذكر ” ويكا ” ؟ ! ولكن !
قلت : أعرف . . كان ذلك في ” الستين ” .
قال : نعم، كان ذلك في الستين ” ويا ليتنا نصلها قبل أن يأخذ صاحب الأمانة أمانته . . ] (ص 17) .
والواضح أنه في هذا النص، كما في غيره، تحضر الذاكرة بقوة كأداة للتذكر والاسترجاع وعقد المقارنات بيت الراهن وما فات ..
[قال : ذلك في ” الستين ” . حتى النوافذ لم يتركوها في سلام
قلت : لكل زمن نافذته!
قلت وما المانع أن يدخل من هذه النوافذ . . من كل النوافذ ! ضحك من كلامي وهمس ، وعيناه لا تغادران الأرض : “ويكا” لا يدخل إلا من … جرب . . سيذهب صراخك هباء .. فالنوافذ تعرف النداء .
قلت : حتى ولو أغلقوا كل النوافذ . . . سأنادي على “ويكا” حتى مطلع الفجر . إذ ذاك برقت عيناه بكلام كظیم انسكب دمعا مدرارا ويده لا تكف عن ترسم آثار عجلة ذاهبة . ] (ص 20) .
ويظل حضور ،الذاكرة، كوعي وتاريخ في أغلب النصوص القصصية بالمجموعة، الأمر الذي يضفي على هاته القصص بعدا نوستالجيا وتوثيقيا في ذات الآن . . رجعت بي الذاكرة إلى الوراء، ما زالت أحرف الموضوع منقوشة في ذاكرتي : اكتب موضـوعـا موضحا فيه هدفك من الحياة . احتضنت الورقة ورقة المستقبل، أنظر إليه بإشفاق، خطت يدي اليمنى الجملة التالية :
أريد أن أكون مربيا لأخدم وطني، ولأ .
لم تكف يدي عن الكتابة، كان القلم يخط الحروف بصورة محمومة . ] (ص 27) .
ولم يفت الكاتب عبد الرحيم مؤدن ، في نفس السياق، وهو يقدم أسئلته الإشكالية إبداعيا أن يعرج على بعض الموضوعات الأخرى التي تمس حياة الإنسان المتشعبة في الحلم كما في اليقظة من خلال تتبع علاقته بالذات الفردية تارة، وفي علاقته بالآخر ومحيطه، تارة أخرى. وقد جاءت هذه الموضوعات عبر مقاطع حكائية ومشاهد حوارية كثيرة ومثيرة، استعملت أثناءها تقنيات تعبيرية متباينة كالوصف والسخرية والنقد والانتقاد وما شاكل بغية رصد التحولات الكبرى التي تعرفها هذه الشخصية أو تلك، ورقيا وواقعيا على حد سواء ..
ولعل أسلوب الحوار، الذي ألمحنا إليه سلفا كان وراء العديد من التلميحات والتصريحات المتعلقة بمختلف القضايا المركزية والهامشية، التي رافقت أبطال المجموعة، ورسمت بعض ملامحهم وتصرفاتهم، كما في هذا المشهد الحواري التالي بين كاتب عمومي وزبون :
عمرها قبل أن تولد أنت، مشكلة لا يعلمها إلا الله اكتب وخليها على الله .
– وهذا القفص الذي يستحي منه الحبس ثمن الكراء وضريبة النظافة. وهذه الآلة لو كانت تملك قلبا التوقف عن الحركة، حتى هي بدأت لا تفرق بين الألف والعصا، المسكينة !! الميم مثل عكاز الأعمى، والثاء تلثغ عند الضربة الأولى فتطبع على الورق حرفا
جديدا لا هو بالشين ولا هو بالنون !!
– سبحان الله سبحان الله !!
– زد آسيدي . . زد . .
قلت لك : حاولت بالترغيب وبالترهيب، أعطيت بالدرهم والعشرة، الكل شهد
بأن الأرض أرضي.
– تعني الشهود.
أما الشكل القصصي، الذي وظفه الكاتب فمتنوع هو الآخر، بتنوع مـوضـوعــاته وأبطاله . ولعلنا نتلمس ذلك الجهد الإبداعي حين تلقي الرسالة الفنية، التي رام الكاتب إلى تمريرها وفق إستراتيجية خاصة تبين عن وعي قصصي وفني على مستوى اللغة والفضاء والتخييل .
ولعل في تجاور الأحداث وتناسلها وتناغم المشاهد وتناميها، عبر مقاطع وصفية أو حوارية، وعبر فقرات معنونة أو مرقمة، وعبر التداعي وتوالي الكلمات، وغيرها من التقنيات ، ، ما يكشف عن أفق إبداعي رحب داخل القصة الواحدة، مثلما قابلنا في قصتي المجذوب وطاحونة الملح ،مثلا، إذ التداخل الموضوعاتي والتحول السردي يؤكدان رغبة الكاتب في ركوب الصنعة والتجريب القصصيين .
وتبعا لذلك، لا غرابة أن نجد في قصة “حكاية كل يوم ما يؤكد الحضور القصصي، الذي يتفرد به القاص عبد الرحيم مؤدن ، وما يجسد إضافته النوعية على مستوى الوعي والتعبير والإنجاز ؛ بله وما يتمتع به، كذلك، من ملكة لغوية ومعجمية، وما يختزنه من مادة معرفية تمتح من مختلف المرجعيات الفكرية والدينية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية وغيرها .
ولنجتزئ هذا المقطع ، على سبيل الختم والتمثيل، ليس إلا. يقول الكاتب / السارد : و المجان بثمن أيضا، والثمن اليوم لا يعده إلا الفم والفم يحتاج إلى حصار، والحصار هو المخزن، والمخزن يده طويلة، واليد الطويلة تصل إلى الأمعاء، والأمعاء تقرقر من الجوع، والجوع كافر. ولكن ..] (ص (33) .
إن القاص عبد الرحيم مؤدن بهذا المنجز الإبداعي طاحونة الملح ” ليحقق فعليا، بشكل أو بآخر، متعة ومؤانسة لدى قارئه الواقعي منه والمفترض، من خلال ما تسمح به نصوص المجموعة من توليد وإنتاج دلالات تنفتح على مختلف الاحتمالات، بما فيها من احتمالات تقليدية وتجريبية من جهة واحتمالات ممكنة ولا ممكنة أيضا، من جهة ثانية . وهو ما يسمح في النهاية، بالحديث عن تحولات الكتابة وامتداداتها القصصية بين الذاكرة
والهوية .
إحالات :
* طاحونة الملح ، عبد الرحيم مؤدن ، شركة النشر والتوزيع المدارس، الدار البيضاء . 2006