د. عبد الرحيم مؤذن
1-الأصابع التي أمسكت الماء
قد لا يصدق على أهل هذه البلاد، ما يصدق على الناس في عجزهم عن الإمساك بالماء. فالهولنديون كانوا استثناء، وتمكنوا من القبض على الماء العصي على الإمساك. وأصبح المثل الشائع(. . كالقابض على الماء) في حاجة إلى إعادة نظر بعد أن أحكم الهولنديون قبضتهم على خيوطه السائلة، وصنعوا منه الأعاجيب، فضرب بهم المثل قي القبض على ماهو عصي على القبض. واسم “الأراضي المنخفضة” ( ربع أراضيها يقع تحت سطح البحر، وأكثر من خمسي أراضيها تغطيها المياه) لم يكن بمحض الصدفة، بل في تلك اللحظة التي انسحب فيها البحر ، انطلق الهولنديون في وضع اللبنة الأولى لهذه البلاد التي خرجت من رحم الماء.
وسيكون الماء البوابة الرئيسية التي سمحت بانفتاح هولندا على العالم ، من خلال موانئها- ومغامرات روادها الأوائل تجارة وقرصنة واحتلالا وكشفا علميا وإبداعا فنيا- التي ارتبطت بمختلف الموانئ الأوروبية ، والعالمية، فضلا عن وسائل التواصل الحديثة من سكك حديديه وطائرات وطرق بريه متطورة. راود الهولنديون الماء ، وراودهم إلى أن استوى ، بعد تضحيات عديدة، عجينا مرنا و كيانا قائم الذات مجسدا في العمارة والمأكل والمشرب والملبس والإمتاع والمؤانسة، فضلا عن التواصل بين المدن والقرى ورصد تحولات الداخل والخارج القريبة والبعيدة. لا يقتصر الماء، إذن، على مجاله الطبيعي من نهر( الراين)، وروافده وتفرعاته. . ولا يقتصر على القنوات والبحيرات الطبيعية ، والصناعية، او الترع والسواقي التي تشق المزارع والسهول.. ولا يقتصر أخيرا، وليس آخرا، على البحر الذي خبره الهولنديون ، تجارة وقرصنة، شرقا وغربا، لا يقتصر الماء على هذا أوذاك ، بل إن هذا الأخير يظل حاضرا في دلالاته المزدوجة التي دفعت بالإنسان الهولندي إلى بناء كيان حضاري يمتح من هاجس التوجس من سلطة الماء التي قد لا تبقي ولا تذر، في رمشة عين، ويمتح هذا البناء ، في الوقت ذاته، من سلطة التقدم المتصاعدة التي لا تتوقف عجلتها عن تقديم الجديد والمفيد والمدهش والممتع.
الماء مرآة للمرئي وغير المرئي. أو بلغة ” كانطية”: “، هو”الفينومين”أو الظاهر، “والنومين” أي المختفي وراء حجاب الظاهر.
2- الماء له لون وطعم ورائحة
ولعل هذا ما يفسر حذر الهولنديين الدائم من الماء، خالق الموت والحياة. وتاريخ الحضارة الإنسانية ولد من رحم الطوفان، بعد أن أعاد هذا الأخير العالم إلى صورته الأولى. ومن ثم لم يتردد أهل هذه البلاد في بناء كيان حضاري متكامل شبيه بجبل الجليد العائم الذي يكتفي بالكشف عن قنته، وما خفي أعظم.
في العقود الأخيرة، وبسبب الاعتداء اليومي-عالميا- على البيئة، أصبحت” هولندا” – حسب التوقعات العديدة- مهددة بالإندثار في أمد قد لا يتعدى قرنا من الزمان. ولم يبق الهولنديون ، نتيجة ذلك، مكتوفي الأيدي، مستسلمين لهذا المصير المرعب، بل انطلقوا في التخطيط المحكم لمواجه هذه التوقعات التي لعب فيها الماء دورا مركزيا، دون أن يمنعهم ذلك من الاستمرار في إنتاج الثروة و المتعة والجمال. وبالإضافة إلى هذا وذاك، ساهم الماء في تنويع وظائف المدن، والمناطق والجهات. فقد تشترك المدن، أو المناطق، في عنصر الماء، غير أنها تختلف في الوظيفة. ف”روتردام”، القلب الصناعي للبلاد، والتي تبعد عن العاصمة “أمستردام”ب70 كيلومترا هي-على غرار معظم مناطق البلاد- ابنة الماء، نهرا وبحرا، بحكم تموقعها على مصب نهر ” الراين”، والقريبة، في الوقت ذاته، من ” موقع هام ينفصل فيه ” المانش” عن بحر الشمال. ((pas de calais)) كل ذلك منحها إيقاعا اقتصاديا، وصناعيا، مرنا ، قادرا على استقبال الواردات المختلفة، وناقلات النفط الضخمة، والحاويات المتنوعة القادمة من كل أنحاء عالم- و روتردام الميناء الرابع عالميا، والأول أوروبيا- لتصبح، بجانب ألمانيا وانجلترا، من المحاور الإستراتيجية، أوروبيا وعالميا. طبعا للماء وشمه في ذاكرة هذه المدينه التي عانت من الفيضانات المهولة في قرون سابقة، مما سمح بصياغتها، من جديد، من خلال أسئلة البر والبحر. والناظر إليها، من بعيد، يلمس تأثير الماء على الجانب المعماري الذي قرب “روتردام” بأبراجها، وجسورها المعلقة، وأرخبيلاتها الصناعية، وقربها، أيضا، من العواصم الصناعية الكبرى مثل ” شنغهاي” و” هونغ كونغ” وغيرها من العواصم الشهيرة المتحكمة في مسارات التجارة العالمية.

3- اللقلاق والبقرة
في طفولتنا البعيدة كانت ” هولندا” بقرة سمينة ، شقراء اللون، تفوح بالنقاء والجمال. قد تكون أقرب إلى البياض، موشومة بجزر صغيرة سوداء زادتها جمالا وبهاء. البقرة بقرة دون زيادة أو نقصان، لكن البقرة الهولندية تختلف عن كل الأبقار. والغريب أن أول لقاء مع هذه البقرة كان عبر ملصق علبة الحليب الشهيرة، سواء كان سائلا أو مسحوقا، وهي تنظر إلينا بغنج ودلال، رابضة وسط سهل لامع، وكأنه مغسول بالصابون. لحد الآن، عند حضور هذه اللحظة، ما زال يطوقني مزيج رائحة لبن رضيع وعشب طازج خرج من أصداف الغبش، أو سدول الغسق. وكان يخيل إلينا أن جرعة من ضرع هذه البقرة الساحرة، سيجعلنا أصحاء ، بعضلات مفتولة، لا يجرؤ أي داء على الاقتراب منا ، بعد أن تلقحنا بالبسمة، وتطعمنا بالسعادة. ولم نكتشف الطواحين الهوائية، في الصورة ذاتها، إلا في فترة لاحقة، بعد أن أخفتها الأبقار بأجسادها الضخمة.
أما اللقلاق فهو الكائن الذي حلت به اللعنة بعد أن توضأ باللبن، ولن يكون هذا الأخير سوى لبن البقرة الهولندية. مسخ بسبب عبثه، أولا، وبسبب استهتاره بهذا السائل المسالم، بعد أن حرمنا من إحدى جرعاته التي كنا في أمس الحاجة إليها في ذلك الزمن البعيد. ولعل ذلك هو سبب شعورنا بالجوع- حتى لو كنا في حالة شبع- على الطريقة” البافلوفية”، بمجرد اكتشافنا لوجوده، وهو يفعل الأفاعيل، فوق قرميد إدارة المدرسة الذي كان يقابل فصلنا الدراسي. وبمجرد أن ترتفع قهقته الخشبية من منقاره القبيح، نستشعر مغصا غريبا، وتجف حلوقنا فجأة، وتحضر البقرة الشهيرة ، وهذه المرة مرفقة بالطاحونة الهوائية مثل طائرة مروحية حملتنا بعيدا نحو…
نحو لبن هولندا. .
نحو بلاد هولندا. .
4-_أمستردام: مدينة قائمة الذات.
حطت الطائرة فوق مطار “أمستردام”. . وانسابت مدة ليست بالقصيرة فوق أرضيته، حتى ظننا أن الطائرات في هولندا تجمع بين طريق السماء وطريق الأرض.. وعبر النوافذ الصغيرة، برزت الطائرات القادمة من أنحاء العالم، رابضة، أومتحركة، في نظام بديع، وتناسق محسوب بدقة، بموازاة آليات عديدة من روافع وشاحنات، تحمل سلعا وتفرغ أخرى، ومستودعات الفيول بغطائها الدائري تنتشر في كل مكان. .
وبمجرد أن تغادر حواجز الشرطة والجمارك ، تصبح منتميا إلى هذه البلاد من خلال نموذجها المصغر المجسد في فضاء المطار ، بعماراته وطبقاته، الذي كان أشبه بضاحية من الضواحي المكتفية بذاتها. الآن فهمت دلالة بطل الشريط السينمائي الشهير الذي- بعد أن منع من الدخول- ظل مرابطا بأحد المطارات مكتفيا بما قدمته هذه الأخيرة بكل ما لذ وطاب. محطة القطار بآلاتها المخصصة لاقتناء التذاكر نحو جميع الجهات، المتاجر المحتفلة بالمنتوج الهولندي، أولا، والأروبي، ثانيا، المطاعم والمقاهي، أكشاك الصحف والمجلات، وآخر المطبوعات باللغتين الهولندية والإنجليزية، فضلا عن الهدايا التذكارية، محلات لبيع التحف خاصة الخزف الهولندي ، بلونيه الأزرق والأبيض، وبمجسماته الثلاثية الشهيرة: الطاحونة، الخفان الخزفيان بشاربيهما المعقوفين الشبيهين بشاربي “سالفادور دالي”، ثم المرأة القروية بلباسها الشعبي الذي يغلب عليه البياض وقد تخللته شرائط منمنمة توزعت بين الحمرة والزرقة، والمنديل الأبيض بسيره الكتاني يطوق الوجه الضاحك المشع بالسعادة والعافية.
5-وجه جانبي ل”أمستردام”
“في المطار ، أيضا، لوحات إشهارية- إلكترونية وعادية- ضوئية، وإحداها تدعوك لزيارة متحف” فان جوخ”، الذي كان – وهذا من حسن الطالع- يعرض لوحات هذا الأخير، خاصة لوحات “بيته الداخلي” بمؤثتاته الشهيرة من كراس وسرير ومناشف ولوحات” مشنوقة”، وطاولة ركن صغيرة حملت تماثيل زجاجية للزينة مكونة من حمامة ومزهرية أقرب إلى منفضة سجائر. ولم تكتف إدارة المطار بالملصق الورقي الداعي لزيارة المعرض، بل جندت اللوحان الإلكترونية الضخمة التي تعاقبت على شاشتها لوحات فان جوخ، وموقعه الإلكتروني الذي- فضلا عن جانبه المعرفي- يسمح باقتناء تذكرة الدخول للراغبين في ذلك.
6-أمستردام: المقدس والمدنس
لن يكون هناك أبلغ من “جاك بريل’- في أغنيته الشهيرة” ميناء أمستردام”، بمرجعيته”الفلامانية”، في رسمه لهذه المدينة، المتوزعة بين صورة القديسة، وصورة المومس. أو لنقل: إنها صورة واحدة بوجهين متكاملين: وجه الملاك. ووجه الشيطان. المقدس والمدنس. “المومس الفاضلة”. الأقنومان معا يتخللان المدينة، وبنسب متفاوتة، غير أن ذلك لايمنع من النظر إلى المدينة، من خلال عالمين متكاملين:عالم الميناء الشهير بطقوسه المميزة وأبطالها بحاره مغامرون لا تغادرهم روح المغامرة، وهم يختلسون من الزمن لحظات هاربه من متع سريعه تؤجل موتهم المنتظر بين لحظه وأخرى.
أما العالم الثاني، فهو عالم المدينة الحديثة- والحداثية أيضا-التي لا تفرط في حقها من الجمال والخضرة معمارا ومنتزهات ومؤسسات إدارية وترفيهية وحوانيت تمتهن الإنسان ببضائع غريبة تعكس هوس الرأسمال والشركات الاستهلاكية التي أعادت إنتاج نظام العبودية الجديدة بأساليب مثيرة من الإغراء والتدمير في الوقت ذاته.
هكذا تعاقبت- تقول الأغنية- على الميناء، أفواج البحارة الحالمين بالثروة، وهم يتساقطون، تباعا، بعد أن غصوا بالمآسي وطفحوا بالشراب مع تباشير الفجر. بهذا الميناء يولد بحارة في عمق وهج حرارة ذوبتها محيطات لامتناهية. وفي هذا الميناء، يوجد بحارة يقضمون سمكا لم يجف ماؤه بعد، فوق خوان شديد البياض، وكأنهم يتلذذون بقضم ثروات هاربة، يحلمون بمعانقة القمر، بالتهام حلوى أثيرة، طردا لكآبة تسربت إلى الجلد والعظم، إلى عمق ما التهموه ، وهم يطلبون المزيد بأيديهم الضخمة، ثم ينهضون ترافقهم قهقهاتهم الماجنة، وهم لا يتوقفون عن حزم سراويلهم، تسبقهم تجشؤاتهم، وأصواتهم الصاخبة..
في ميناء أمستردام، لا يتوقف البحارة عن الرقص، والحديث المكرور عن النساء. . , يدورون ويرقصون مثل شموس مختفية بين الصوت المشروخ ل’ الأكورديون”. . يحركون أعناقهم بنشوة، إلى أن يشهق “الأكورديون” شهقته الأخيرة. إذ ذاك تنتفض الحركة الحاسمة ، وتهتز النظرة المتجبرة، وهم يجرون أرجلهم في شهقة الفجر.
في ميناء أمستردام يوجد بحارة ، يشربون، ويعاودون الشرب مرات ومرات . . . يشربون في صحة عاهرات أمستردام، هامبورغ، أو أي مكان.. أخيرا، إنهم يشربون في صحة نساء يمنحن أجسادهن الجميلة بأبخس الأثمان.. يبعن كرامتهن من أجل قطعة ذهبية.
وعندما ينتشون يرفعون أنوفهم نحو السماء، ويتمخطون في وجه النجوم ويتبولون. . بميناء أمستردام. .
بميناء أمستردام . .
بميناء أمستردام. .
7- أمستردام: العراقة والحداثة
لهذه المدينة – منذ القرن 17- موقعها المادي ، والرمزي، في تاريخ البلاد. فهي من مرتكزات التجارة العالمية التي كانت وراء تجميع الثروات ، وتحويل هذا لبلد الصغير إلى قطب اقتصادي فاعل في أوروبا، وباقي أطراف العالم. فالسفن الهولندية-تجارة وقرصنة- جابت البحار طولا وعرضا، وتحكمت في الأنشطة التجارية ، والمالية، من خلال شركات تجارية شهيرة وعلاقات مالية متعددة. (وأستطاع هذا البلد الصغير في وقت وجيز توسيع حدوده التجارية فامتدت تجارته إلى درجه جعلت البعض يقول عنها بأنها” أصبحت لا تعرف حاجزا ولا يعرف حدودها إلا العلي القدير”).
و” أمستردام” عاصمة البلاد السياسية مع خلوها من علاماتها الدالة على السلطة من مبان حكومية وبرلمان.. انفردت بها مدينة أخرى، مدينة’ دان هاخ”، أو “لاهاي”.
وعند نزولنا بهذه المدينة، لمسنا، عن قرب، الثنائية الضدية التي تحكمت في إيقاع المدينة. الحركة والثبات، العمارة الحديثة والمعمار المتميز للبيوت الصغيرة بواجهاتها المميزة بمساحتها المحدودة وأصص زهورها المتنوع. الصخب (المطار/ الميناء/ المحلات التجارية الكبرى/ الأسواق/ الساحات..) والهدوء المنبعث من الآثار التاريخية والمعالم الأثرية، فضلا عن المتاحف والكنائس والحدائق. القطارات والحافلات وعربات الترام، والمراكب الشراعية والفلك والبواخر التجارية، والسياحية، الطرقات العصرية، بأشكالها المختلفة، والممرات الحميمية بقناطرها الأليفة التي تذكرك بعض نماذجها بقنطرة ” فان جوخ ” الخشبية الشهيرة، الواجهات العصرية للمنازل والعمارات والمؤسسات والفنادق، والسقوف القرميدية بمداخنها المختلفة، تجاورها نوافذ صغيره مثلثه السقوف بعيون زجاجية، وكأنها خوذات ” الساموراي” وقبابها المنتسبة إلى العمارة الباروكية، “الأيقون” الهولندي المجسد في الطواحين الهوائية- برمزيتها التاريخية- والبنايات الحديثة المختلفة.
8- مدرسة أمستردام.
“أمستردام” مدينة المتاحف، (بهولندا ما يناهز 400 متحف في مختلف التوجهات الفنيه والصناعية)، وأهمها متحف” فان جوخ”( وأمستردام لعبت دورا كبيرا في خلق المدرسة الفلامانية من خلال أعلامها الكبار الذين سيرد عنهم الحديث لاحقا. و” المتحف الوطني”، فضلا عن متحف السيدة” توسو” الشمعي الذي لايتوقف عن تشكيل صور وتماثيل المشاعير في الغناء خاصة، فضلا عن الرياضة و السياسة والفن، التقاليد الأوروبية في الأكل والمشرب واللباس، والسمات المحلية المتوارثة في التقاليد والأعياد والقيم، اللغة الهولندية واللغات المتعددة، البياض والشقرة والسواد والسمرة والصفرة.. والرائي يلمس، عن قرب، نجاح المجتمع الهولندي- بالمقارنة مع بلدان أوروبية أخرى- في استيعاب هذا التعدد الثقافي واللغوي المتفاعل مع الطبائع الهولندية في مجالات متعددة.
الداخل إلى “أمستردام” يتلقى شلالات من الجمال والمتعة والدهشة أيضا.. ومن ثم يصعب عليه- وهو القادم من بلاد لا تقدم الفرح إلا بمقدار – استيعاب هذا السيل من المظاهر المختلفة – سلبا وإيجابا- المنتجة من قبل هؤلاء القوم.
ولم يبق أمامه إلا ” اختلاس” لحظات سريعة من المرئيات المختلفة، وهو في دوامه تتابع الصور والأوضاع والأشكال والألوان.. في المأكل والملبس والكلام والبناء والشجر والحجر والإنسان والحيوان..
9- المجد للدراجه الهوائية
عدد سكان ” هولندا” 17 مليون نسمة وعدد الدراجات الهوائيه ما يقرب من 15 مليون دراجة. ولاتكاد تخلو مدينه هولندية من الدراجة الهوائية المختلفة أشكالها، وأسعارها( بعضها يصل إلى ألف أورو) وألوانها.
وارتباط الهولندي بالدراجة ينطلق من دور هذه الأخيرة في الحفاظ على جذوة النشاط الجسمي – والمعنوي- للكائن، فضلا عن دور الدراجة في المحافظة على نظافة البيئة، واقتصاد الطاقة (تعرف هولندا بضعف مواردها المعدنية والطاقية)، خاصة أن تخطيط المدن الهولندية لم يهمل هذه الأداة الأساسية- الدراجة الهوائية- من خلال انفرادها بمسارها الخاص الموازي لمسار الميترو والترام وباقي وسائل النقل والتواصل المختلفة.
والمتأمل لراكب الدراجة ، ينتابه إحساس خاص يستشعر ، من خلاله، مدى تآلف الراكب مع المركوب. ولعل ذلك مايفسر تفنن الهولنديين في صناعة هذه الأداة، وطريقة تعاملهم مع هذه الأخيرة شكلا ومضمونا. ويمكن تقديم بعض مظاهر هذا التعامل من خلال الآتي:
10- الدراجة الهوائية هوية ثقافية:
&-تنويع أشكال الدراجة الهوائية تبعا للوظيفة والضرورة أو الحاجة. فبالإضافة إلى الدراجات العادية ذات العجلتين، وجدت دراجات العجلات الثلاث، أو الأربع، خاصة الدراجات العائلية، التي قد تلحق ببعضها عربات صغيره للأطفال تحتوي على مختلف لوازم الأمن والراحة (مقاعد/مظلات/ لعب/ أكل. . ).
& -لبعض الدراجات “سروج” قد تصل إلى الأربعة. هكذا انتقلت الأسر الهولندية ، بمرونة ويسر، بين جنبات المدينة دون الحاجة إلى وسائل النقل ربحا للوقت، من جهة، وتعويد الناشئة على قيم جديدة من جهة ثانية.
&-تنوعت الدراجة الهوائية، أيضا، في ألوانها إلى الحد الذي تحول فيه البعض منها إلى أعمال فنيه متكاملة. واختيار لون خاص قد يتحول إلى علامة مميزة دالة على ممارسة اجتماعية محددة، أو هوية ثقافية معينة ( مثلا اللون الوردي بالنسبة لممارسات استثنائية معينة).
&- قد لا تحتاج الدراجات الهوائية إلى مواقف خاصة، بعد أن يكتفي أصحابها بعقلها أمام المؤسسات، أو على طول الأرصفة، وأمام العتبات المنزلية غير أن ذلك لا يمنع من وجود “مرائب” خاصة بالدراجات الهوائية، وبعضها مكون من طبقه، أو طبقتين اصطفت فيها الدراجات بنظام بديع كما شاهدنا ذلك بالقرب من محطه القطار ب” ليدن”.
&- وتحظى الدراجة الهوائية بالعناية اللازمة نظافة وتجهيزا (الكوابح/الأضواء/ النواقيس..). فالطريق، في هذه البلاد، ملك مشترك، يشترك فيه الراجل والراكب، المبصر والأعمى(الجرس المنبه لغير المبصرين عند اشتعال الضوء الأخضر)، الترام والميترو، القطار والسيارة، الحافلة والشاحنة…
و يظل الطريق الخاص بالدراجة الهوائية مخصصا لهذه الأخيرة دون غيرها، وعلى مستعمليه ، لسبب أو لآخر، مراعاة هذه الملكية المشتركة لكل الأدوات الفاعلة في الانتقال والاتصال والتواصل.
11- ليدن: طبعة منقحة ومزيدة
حظي اسم ” ليدن”ب” وضع اعتباري”، في بداية دراستنا الجامعية بكلية الآداب، شعبة اللغة العربية. معظم المصادر كانت ممهورة بمطبعة “ليدن”. وفي تلك الفترة المبكرة من بداية تلمّسنا لما وراء الصورة، توزع إسم “ليدن” – لغة بين الألمانية والهولندية، بين الغرب المتجبر والغرب العالم. . كانت طبعة” ليدن” كافيه لاقتناء مطبوع لأجذال في قيمته. . حروف المصادر النقدية، ودواوين فحول الشعراء، رشيقه أشبه بالكتابة المسمارية تفوح منها رائحه الأديرة ، وورقها الصقيل يأخذك ، برفق، نحو مضارب القبيلة التي غبت عنها زمنا ليس بالقصير، والتي اكتشفتها- كما يقول، عبد الله العروي، عن طريق الغرب. لمدينة” ليدن” مكانة خاصة جعلها في الموقع الخامس، بين مدن أوروبا، والمستمد، في جوهره، من وجهها الثقافي الذي جعل منها مدينة المعرفة ، والمكتبات العامرة، دون أن تتخلى عن ثوابت المدينة الهولندية في الجمع بين الموروث والمعاصر.
وتحظى ” ليدن” بمكانة خاصة بين دول أوروبا في هذا السياق، سياق الطبع والنشر- جريدة ليدن الشهيره في القرن18- فضلا عن جامعتها العريقة ، بكلياتها السبع، المنفتحة على العديد من لأجناس والتجارب واللغات. وموقف الدراجات، بطبقاته العديدة، والقريب من محطة القطار مؤشر على الكثافة الطلابية بهذه المدينة.
وبمجرد أن تغادر محطة القطار، تتعاقب أمامك مظاهر الجمال المختلفة :النمط المعماري لم يتغير منذ قرون عدة. الطابوق الأحمر يوحد- وهو يعكس وحده الرؤية أيضا- بين الأبنية المختلفة بسقوفها القرميدية ونوافذها الواسعة ذات المصاريع المتعددة الألوان والأشكال، وإن غلب عليها البياض، من جهة، والاستطالة ، أفقيا، من جهة ثانية.
12- بين الألفة والحسرة
لا أدري لماذا تشيع فيك هذه المدينة- والمدن الهولندية عامة- إحساسا مزدوجا يجمع بين الألفة والحسرة. الألفة بحكم صياغة الهولنديين لمحيطهم البيئي، بحمولاته المتعددة في الطبيعة والتاريخ- صياغة الضرورة والجمال، المفيد والممتع، الثابت والمتحول. وتنتقل هذه الألفة إلى الزائر الذي يحرص، أثناء تجواله بين فضاءات المدينة على التعامل مع مختلف مكوناتها، بنوع من المودة والحنو، الحاملة للمسة الجمال بطريقه أو بأخرى: فالطاحونة الهوائية- على سبيل المثال- لا تقتصر على ضفاف الأنهار، أو الحقول، بل قد تصبح ” ثيمة” أساسية في تقديم هوية البلاد عن طريق حملها من مرجعيتها القديمة إلى مرجعية جديدة، يلمسها القارئ في المنتوج السياحي، وفي الفضاءات الموازية من مطاعم ومزارات أثريه ولعب أطفال، وأدوات منزلية، وعناصر تزيينية مختلفة.
أما الحسرة فتعود إلى ما تعرفه مدننا من كآبه واكتئاب. فمدينتي التي خرجت منها نحو هذه البلاد في ذلك اليوم من أيام مارس من السنة الفارطة(2011) كانت ، إلى عهد قريب، جنة الله في الأرض. وما دام الشئ بالشئ يذكر، فهي المدينة التي حصلت على جائزة النظافة، دوليا، في بداية الستينيات. مدينة الخضرة الدائمة، والفضفضة في البناء والطريق والمنتزه وأشكال التواصل الإجتماعي. أما الآن فهي مجرد معازل سكنية متفاوتة، شكلا ومحتوى، لكنها تلتقي في افتقادها للحس الجمالي الذي لاتفرزه العمارات المتناسله، ولا الواجهات الزجاجية المستفزة للمؤسسات والمصالح المختلفة… قد لايخلو ذلك من فائدة، اليوم أوغدا، غير أن افتقاد مدينة لقاعه سينمائيه، أو مسرح، أو متحف، افتقادها ، أيضا، لمكتبة محترمة لنصب محترم عوض ماسوي على عجل من مظاهر مبكية مضحكة.. والحديث ذو شجون.. أعرف أن العيب في الساكن قبل المسكون، لكن هذا الأخير يصبح مجرد مكان لايتجاوز دوره “الشرط البيولوجي”عوض الشرط الإنساني.
لم أستطع أن أمنع نفسي من هذا التداعي المثير للشجى ، وأنا أجتاز القنطرة العريقة، بعد أن صبغت حديثا، المتحركة المقامة فوق نهر الراين، متأملا مظاهر الجمال في الحدائق المترامية، والأسواق الشعبية، ومنه سوق الجبن الذي صادفناه في ذلك اليوم والأبنية أو الدور المطلة على الماء، وديانا وقنوات وبحيرات… واحتفالات موسمية… وهي تعوم “في بحر من السرور”، قبل أن تعوم في ماء قدّ من لوحات وألوان كبار رساميها ، فاختلط الأصل بالفرع، والمصدر بالمستنسخ. . لمسة الجمال قد لاتحتاج إلى تبذير المال واللهاث وراء حداثوية وهمية. . بل تحتاج إلى اعتبار الجمال جزءا من المعيش الذي يسد الرمق، رمق الجسم ورمق الروح.
13- دان هاخ:
وهي الشهيرة ب” لاهاي”، التي تعد العاصمة السياسية الحقيقية للبلاد، بعد أن ضمت أهم المنشآت الحكومية (البرلمان على سبيل المثال) فضلا عن محكمة العدل الدولية التي اشتهرت بها عالميا، من خلال المحاكمات الشهيره التي عكستها- وما تزال- وسائل الإعلام في مناسبات عديدة.
والمفارقة التي يستشعرها الزائر تكمن في نوعية هذه المحاكمات المغرقة في الدم، وبين طبيعة هذا المكان الموسومة بالخضرة والجمال والهدوء. والمدينة تأخذ لكل فصل لبوسه. زرتها، شتاء، فكانت تقطر نقاء، وندف الثلج تتحول ، تدريجيا، إلى بساط شفاف يمتد فوق الموجودات، ليزداد كثافة، بعد لحظات قد تطول أوتقصر، ويعم البياض المكان ليرين على الأرض السلام.
وزرتها، ربيعا، فكان قطعه من الجنان، بالرغم من اللسعة الباردة التي كانت تعيدنا إلى عالم الأرض.
ولما كانت ” دان هاخ” مدينه شاطئيه فقد صادف وجودنا العديد من الأوراش التي جعلت من الشاطئ( شيفنينجين) ميدانا فسيحا للإضافة والتجديد والتجميل والإبداع. فالزائر لهذا الشاطئ يلمس تكامل الطبيعة والإنسان في خلق فضاء مميز بهندسته التي جسدتها الفنادق والمطاعم وملاعب الأطفال، فضلا عن اللسان الحديدي الذي اتخذ شكل قنطرة مسقوفة ، توزعت على جنباتها المتاجر العارضه للوازم البحر، ومنتجات هولندا المادية والرمزية الموجة للسياحة.
ويظل البحر دليلك بهذه المدينة، ، سواء وقفت عليه أولم تقف ، بل إنه يأتيك مع أصوات النوارس التي تخترق النوافذ والأبواب ، جذله بأشعه شمس خجوله، لايتردد الهولنديون في اقتناصها بالإنتشار قي الفضاءات العامة وفوق كراسي المقاهي، وسط زخم من أصوات بواخر قادمة، أو راحلة، وهدير الترام – وهو متعدد الألوان- يمرق بإيقاعه السريع، وصوت الأرغن يرتفع بصوته الوقور، تتلوه دقات ناقوس الكنيسة القريبه برتابة القرون.
هو يوم الأحد إذن. الدور الهاجعة، باطمئنان، تتصاعد من بعض سقوفها أدخنة المدافئ، والسقوف القرميدية تلمع ببقايا زخات مطر متقطع، والسيارات الرابضة، والأشجار السامقة، بجذوعها الرشيقه، متسربلة بخضره طازجة موشومة ببقع بنية مبرقعة بالأصفر كما عكستها لوحات “فان جوخ” الشهيرة.. إنه فصل خامس انضاف “إلى الفصول الأربعة معلنا عن شتاء ربيعي، أو ربيع شتائي، تتداخل فيه المظاهر والمرئيات. وهذه الدور عموما تتسم- والهولندي يتميز ببساطته في المأكل والملبس والتواصل الإجتماعي- بالمتانة والبساطة والجمال. ولفت نظرنا ، خاصة الطوابق السفلى- النوافذ العريضة ، أفقيا، بواجهات زجاجية ، امتلأت جنباتها ، وزواياها، بأيقونات دينية، ودمى أطفال، و وورود مطلة من مزهريات مختلفة الأشكال والأحجام وأرائك، وأسرة، والقاطنون يمارسون حياتهم الطبيعية، أكلا وشربا وضحكا، دون عقد أو تعقيد. وبالمقارنة مع مدن أخرى- ماستريخت على سبيل المثال- قد تجد نوعا من المحافظة في البناء والممارسة الإجتماعية. ولاشك أن أسبابا كثيرة لعبت دورها في ذلك، خاصة على المستوى الديني ، من خلال المظاهر البروستانتية المتفتحة ، بالقياس إلى ما عرفت به الكاثوليكية من محافظة.
تتنوع الفضاءات بهذه المدينة، وتتعدد خدماتها على مستوى المطاعم والأسواق الكبرى، والمقاهي وانتشارحوانيت ” الفاست فود، المتعددةة الأجناس، و التي قدمت مختلف أطعمه الشعوب ، خاصة الأطعمة التركية والصينية خاصة، أو الأسيوية عامة. وبموازاة ذلك ظلت الخصوصية الهولندية حاضرة ، من خلال أطعمتها المميزة، كما هو شأن مطعم الأسماك القريب من “لحي الصيني” ، والذي يقدم كل أكلات سمكيه مميزة بما فيها السمك النيئ المتبل بتوابل خاصة.
14- التعدد والتنوع:
ب” دان هاخ” مسجد الأقصى-بني في سبعينيات القرن الماضي- الذي تشرف عليه الجالية التركية بعلمها الموازي للعلم الهولندي، عند مدخل المسجد الجامع بين القوس الإسلامي- وفوقه كتبت الجملة التالية، ” سلام عليكم وادخلوها خالدين”- والمثلث “الأوروبي”.
ومن أهم الفضاءات، أيضا، فضاء المكتبه الوطنية التي تظل أبوابها مفتوحة، طوال أيام الأسبوع ، بما فيها يوم الأحد انطلاقا من الساعة الثانية عشرة زوالا، والتي توسطت المدينة بواجهتها النصف دائرية، وامتدادها الأفقى والعمودي المشكل من طوابق عدة، خصص الطابق السفلي منها ل” الكافيتيريا” مع توفير حيز ملائم لقراءة الصحف والمجلات، بما فيها الصحف العربية، خاصة الشرق الأوسط والأهرام المصرية. وخصص الطابق الأول للطاقم الإداري ومصلحة المعلوميات التي تمنح القارئ، والباحث، أرشيف المكتبة ومحتوياتها المختلفه، بل إنها تمنح المهتم إحصاءات محددة عن نسبة القراءة والقراء أثناء تعاملهم مع كتب قد تحقق مقروئية عالية. وخصص الطابق الثاني، والثالث، لرفوف الكتب، تتخللها زوايا المطالعة بتنظيم هندسي بديع. ولم تخل المدينة من القواسم المشتركة مع المدن الهولندية من متاحف وطواحين وفضاءات للكبار والصغار رصعت بالأنصاب والتماثيل واللوحات، وأخيرا ، وليس آخرا، بالورود المختلفة الأشكال والألوان، والتي جعلت من هذه الفضاءات “قطعة من الجنان” على حد تعبيرأسلافنا من المرتحلين والزائرين. وتجدر الإشارة إلى أن طبيعة المناطق تختلف بطبيعة الساكنة التي قد لاتتوفر إلا على الحد الأدنى من المظاهر الجمالية السابقة، مع امتلاكها لشروط ملائمة للعيش الإنساني. فالمناطق الشعبية التي تسكنها الجالية المغربية، وأقليات أخرى، بالقرب من محطة القطار الرئيسية (هولاند سبور) تتميز ببساطتها و منازلها المتشابهة حجما وشكلا، الشبيهة بدور عمال القرن 19 بالبلدان الأوروبية، مع مراعاة تغير الزمن الذي فرض وجود مؤسسات اجتماعية، وأسواق شعبية ملائمة للقدرة الشرائية السائدة، فضلا عن بعض وسائل التلهية، سلبا وإيجابا، موجهة للساكنة لأهداف عديدة.
15- ماستريخت:
زيارة لوحة لتشكيلية الرحلة هذه المرة، كانت بواسطة السيارة التي تم كراؤها عن طريق مؤسسات خاصة، أو شركات معينه تقدم للراغب في ذلك كل ما تتطلبه الرحلة. قبل ذلك ، قمنا بكراء شقه مفروشة، عن طريق الأنترنيت، تقع بشارع حمل اسما غريبا – شارع هرتوخ سنخل- لم نمل من استبطانه، من مواقع لسانيه وإيديولوجيه ، طوال الرحله. ولم نمل من سؤال دليلنا، وهو مقيم بهذه البلاد منذ أمد ليس بيسير، حول انتشار حرف الخاء في اللغة الهولندية. قال الدليل: تقول للثرثار: ” خنوخ” أي “كفى” . والأحمق: خيك، وللصحن: شخوتل، وللكبيز.. مثلا ، قهوة كبيرة: “خروت كافي.. وتعالت ضحكاتنا من حرف ” الخاء” وما سيفعله من أفاعيل، لو انفتح المعجم على مصراعيه.
ونحن نتجه نحو” ماستريخت”، تداعت صور ذلك اليوم الذي أعلنت فيه أوروبا عن وحدتها التاريخيه في بداية التسعينيات من القرن الماضي.. السمفونيه التاسعة، في أوجها الإيقاعي، خاصة في المقطع المعزوف بآلات “الكونترباس” المثيره للرهبة والشجن في آن واحد. الرهبة نبعت من حشرجة ” الكونترباس” وماتحيل عليه من معاناة خاصة ف” الكونترباس” آلة اللحظات الحاسمه، والتي تقتضي تأدية الثمن بطريقه أو بأخرى.
أما الشجن، ف” الكونترباس” آله مونولوجيه بامتياز، بخلاف الإحساس الذي يمنحه الكمان العادي، إحساس الإستعداد للحوار بين طرفين. وفي اللحظه التي تتوقف فيه آله ” الكونترباس” عن العزف، يندفع ” الكورس” المزدوج- نساء ورجالا- لترديد مقاطع ” شيللر” الشهيرة عن عظمه الأنسان وقوته.
سهول منبسطة، وقرى زاهيه بمراعيها وسواقيها وآلاتها وطواحينها ودورها الريفية مرسومة بالقلم والبركار، كما قدمتها لنا كتب المطالعة، أو القراءة في مراحل دراستنا المبكرة.
بوصولنا إلى الشارع ذي الإسم المثير، لم نجد صعوبة في العثور على المنزل . وهذه من محاسن التمدين عند هؤلاء القوم الذين جعلوا من التمدن أداه لتدبير المنافع، وتنظيم المداخل والمخارج، ومختلف الفضاءات في علاقتها بالساكنه ووسائل النقل والتواصل اليومي في مختلف المجالات.
استقبلتنا ربة البت بابتسامة عريضة. كانت امرأه قدتجاوزت الخمسين، بشعر قصير، ولباس ذكوري غلب عليه اللون الرمادي، جعلها أقرب إلى المجندات. البيت مكون من ثلاث طوابق. الطابق الأسفل يخص صاحبة المنزل الذي ضم معملها الخاص بممارستها للرسم الزيتي، فضلا عن الملحقات العادية من مطبخ وصالون صغير وخزانه زجاجية ضمت رفوفها أشياء غريبة خاصة جماجم القطط والأرانب المحنطة، فلعبت في ذهننا الألاعيب التي لم يخفف منها سوى تفسيرات صاحبه البيت عن علاقة هذه المقتنيات الغريبة بالهواي وممارسة الرسم في آن واحد. ومع ذلك لم تغادرنا الشكوك والهواجس التي طعمتها ما ترسخ في ذاكرتنا من صور أفلام الرعب الشهيرة. في هذه اللحظه بالذات حضرت لقطه مميزة طردت بعض ما كان يمر ببالنا، من شريط “رامبرانت”- القرن17- الذي كان يتابع فيه، وهوفي سنوات التكوين الأولى- درسا في تشريح الجسد الإنساني الذي عبره معظم الرسامين والنحاتين منذ عصر النهضة الأوروبية. ودلالة صرخة ابنته – مات رامبرانت بعينين مفتوحتين_ وهي تعلن الخبر، دون أن تتوقف عن العدو تحمل الشيء الكثير، ومنه القبض على الداخل عند تقديم الخارج أو الظاهر، هذا الأخير الذي يجب أن يكون مرآة للذات الإنسانية وإلآ أصبح مجرد استنساخ بارد.
15_ سوق التشكيل
وللتذكير ف “ماستريخت تعرف” بكونها من أهم الأ سواق العالميه لعرض اللوحات الفنية، خاصه لوحات الفن الفلاماني- الهولندي- لكبار رسامي القرن 17. كان مقامنا بالطابق الثاني، بعد زياره خاطفه للطابق الثالث الخاص بسكن صاحب البيت، والذي امتاز بمكتبه كبيره عجزت عن استيعاب المطبوعات المختلفه ، فسالت بالكثير منها على جنبات السلم الخشبي للمنزل.
“ماستريخت” لوحة أخرى من لوحات هذا البلد ، من خلال حفاظه على طرفي المعادله الثابتين:الحداثه الواعية المحركة لدواليب الإقتصاد، والمجتمع عامة، والخصوصية- من ناحية أخرى- المتوارثه بقدرتها على تحفيزالذات، وربطها بألفة الأمكنة الموشومة بعبق التاريخ ودلالاته.
كان المنزل قريبا من الشارع التجاري بالمدينة. متاجر مطاعم وحوانيت الصاغ ومقاه ومكتبات.. وفي نهاية الشارع ارتفعت طاحونة هوائية أدمجت في المنتزه الصغير الذي جمع بين المقهى المطل على بحيرة صناعية، وبين كشك ، توسط بساطا أخضر، لبيع الهدايا التذكارية. وغير بعيد عن هذا المكان كان عازف الموسيقى الصادحة ، بلباسه الشبيه بلباس بهلوان السيرك، يتابع دوران الأسطوانة الموسيقيه للعربة ذات العجلتين، وحصانها العاجي يرفع قائمتيه الأماميتين مندفعا نحو الأمام، برسومها المزركشة لطبيعة ندية، تخللتها وجوه بهلوانية خارجة من رحم السيرك بأنوفهم المكورة بحبات حمراء وقبعاتهم المضغوطة وبناطيلهم الصوفيه ذات المربعات العريضة.. وعلى الجانبين تناثرت المتاجر بمختلف السلع، والمطاعم والمقاهي ومكاتب الشركات والمؤسسات.. ما الروافد، أي الدروب والأزقة، التي تصب في الشارع الرئيسي فما زالت محافظه علي أرضيتها المبلطة بصفائح تعود إلى قرون خلت، بل إن أبنية محدده تمسكت بأسوارها العريقه ، وعبقها التاريخي الذي شع من جنباتها، كما هو شأن المعهد الموسيقي الذي زاده الفضاء الساحر قدسية وجمالا.
و أخذت هذه المدينه مثل غيرها من مدن “هولندا” نصيبها ، وزيادة، من الجمال وحسن التدبير. فالساحة، بوسط المدينة، تتعاقب عليها العروض الموسيقية، والمسرحية، بالرغم من برودة الجوفي تلك الأماسي، من أواسط مارس، التي حرص فيها الجمهور على متابعة عرض موسيقي، مرفق، في الوقت ذاته، بعرض صور متحركة تسهم في تأويل التجريد الموسيقي ، وتجسيده بأبعاد مختلفة.
والغريب أن العرض قدم لجمهور رابط ، وقوفا على قدميه، أمام الخشبه إلى نهاية العرض، ثم تفرق الجمع بهدوء، وعادت الساحة إلى صمتها الرصين ترهف السمع لحفيف الريح، تحرسها تماثيل برونزيه ، وأنصاب تذكارية، ووقع خطوات مهرولة تقرع البلاط الأصم بإيقاعات متناسقة..
17- “نيروز” 1هولندا
في ” هولندا” مثل سائر يقول: “وردة واحدة تفوق كثيرا ألف كلمة”. فالتعامل مع االزهور والورود، بهذه البلاد، يعكس طبيعة الذهنيه السائدة بهذا المكان.
ولم يقصر الهولنديون الورود على الزينة ، أو التجميل، بل جعلوا من الطبيعة، عامة، والورود، خاصة، وسيلة من وسائل التعامل مع العالم. وهذه الرؤية_ كما رصدها الرحالة المغربي المتوجة إلى أوروبا خلال القرن 19- تقوم على النظام، أي الضبط والتخطيط، والعقلنة. يصف الرحالة الجعايدي غابة من الغابات البلجيكية التي تشترك مع المناخ الهولندي في قواسم كثيرة، بقوله: (وخرجنا نطوف بناحية من نواحي البلد، فوجدناهم مشتغلين بكنس الطرق والرش أيضا، وسرنا حتى انتهينا إلى طرف البلد فوجدنا هناك غابة عظيمة والطرق واسعة فيها تتخللها من جهات كثيرة، وبعض الأماكن منها يتخذ بقصد الإستراحة…وبعد صلاة العصر أخذنا نتمشى في هذه الغابة على أرجلنا فرأينا فيها أشجارا عظيمة الخلقة، وهي في غاية ارتفاع، وجلها لاترى في طوله من ساقه إلى رأسه اعوجاجا… فكنا نجدهم في بعض الطرق دون بعض وفنارات الضوء ممتدة معها تشعل الليل كله… وبعض المواضع التي بوسط المدينة وجناه مغروسا كأنه غابة. ). هكذا انتشرت أعياد الزهور- كما اشتهر قديما النوروز الفارسي، والزنابق، في مدن هولندية عديدة، والبعض منها اشتهر بمهرجانات عالمية ، في السياق ذاته، بلغت شهرتها الآفاق، “تقام على رأس كل خمس أو عشر سنوات، مرفقا بمظاهر الزينة المستوحاة من الورود وتوظيفها في أشكال ولوحات تحملها عربات مغطاة بأنواع الورود، مخترقة مدنا عديدة، وشوارع مختلفة، وساحات عديدة شهدت بدورها معارض متنوعة لأنواع الزهور والرياحين. وصادف وجودنا بهذا البلد الجميل مهرجان” كوكنهوف”- ويقام عادة بين شهري مارس وماي من كل سنة- للورود والرياحين، بالقرب من ليدن. وهو من المواسم المميزة بعرضها لأفانين الورود والزهور بأشكال تخلب الألباب والعقول. ولا تكاد المنتزهات العامة، فضلا عن الغابات والفضاءات السياحية الطبيعية، من هندسة خاصة بتنسيق الورود، وتخصيص الفلك المنشرة والدراجات الهوائية في البحيرات الطبيعية، أو الصناعية، للقيام بجولات ترفيهية، واستطلاعية- مرفقة بأنغام ” شوبان”- بين المشاتل الزاهية بألوانها وأشكالها المهندسة بإحكام وإتقان، عبر سبع حدائق، وأشهرها “حديقة الزنابق”..
18- الأصل والصورة:
الزائر لهذه البلاد تستوقفه اللمسة الجمالية المنتشرة ، هنا وهناك، في البيئة الهولندية عبر مظاهر الحياة اليومية. وطوال هذه الرحلة- على قصرها- بدأت تتضح أمامي دلالة الإرتفاع الكمي- والكيفي- لنسبة الرسامين بهذه البلاد. تقوم هذه الدلالة على طبيعة العلاقة بين الإنسان ومحيطه، عبر جدلية الوجود والعدم، كشفا وعملا وبناء ومغامرة. وخضعت هذه العلاقة للإضافة اليومية، والتجديد المستمر، والإبداع المستفيد من تجارب متعددة لم تعد منتسبة إلى “هولندا”، بل إلى” الأراضي المنخفضة” – وهو مصطلح له دلالته -أوروبيا، والإنسانية عالميا. نضيف إلى ذلك الرصيد الفني المتراكم منذ قرون عدة. ففي الوقت- كما يرى الكثير من مؤرخي الفن- الذي اتجهت فيه النهضة الإيطالية نحو معالجة قضايا شكلية –التعامل مع الأشكال-، انكب الرسامون الفلامانيون على البحث في علاقات الديني( المقدس) بالإنساني، الخطي باللوني… ولعل ذلك هو الذي منح الرسم الفلاماني واقعيته المميزة، مرهفا- الفن الفلاماني- السمع لما تحويه المادة من عمق روحي رابط بين المدنس( الأرضي) والمقدس. وستبلغ هذه الواقعية أوجها لد”فان جوخ” – القرن ق19. ومن خصائص هذه الواقعية، أيضا، تميزها بالبساطة- والهولندي يفكر بصوت مرتفع- التي لاتعني التسطيح، أو الاستنساخ الحرفي للمرئيات، بل تعني الارتباط باليومي في دلالاته القريبة- الصراع من أجل العيش- وفي دلالاته البعيدة مجسدة في الحفاظ على قيم العمل والمتعة والجمال ، أو بعبارة أخرى: تلبية مطالب الروح والجسد. والمتأمل للرسم الهولندي، انطلاقا من القرن15( لوحات جان فان ديك مثلا)الذي تكررت فيه الثيمات الدينية من صلب وثنائية العذراء والصبي( المسيح) والنعيم والجحيم، مرورا بالقرنين و17/16اللذين شهدا – دون غياب الديني- دخول اليومي، فضلا عن البورتريه ومظاهر الطبيعة- من خلال الفعل الإنساني فى مواقع العمل: لوحات الطباخة /السائلون/أعراس قروية ل” بيير آرتسن. / طبيعة ميتة/هجوم على القافلة/ل” جان بروجل دوفولور. / عرس قروي/منظر طبيعي خلال غروب الشمس ل” روبنز”..)
وبالإضافة إلى هذا وذاك، لم يكن الفن، لدى الهولندي، ترفا ، بل كان ضرورة يومية، مارسها من خلال البناء وإنتاج مظاهر الثروة المتعددة، من جهة، ومن خلال – من جهة ثانية- إدماج المنتوج الفني في الحياة اليومية. فالرسام ” رامبرانت” -ق17-المنتسب إلى “ليدن” مواطن هذه المدينة الذي تصادفه كل صباح ، في إحدى الساحات، بتمثال نصفي ، ينظر إليك بنظرته المتسائلة والمتحدية، في آن واحد، وقبعته الدائرية المضغوطة، من جوانب عدة، لم تغادر رؤوس أساتذة الجامعات، في مناسبات محددة، أوقد يحمل فندق شهير بشارع ( المتجر الممتاز الجديد-2312. ليدن) اسمه مع الشروح العديدة المرتبطة بالفضاء التاريخي الذي أقيم به النزل. أو قد يدعوك ملصق سياحي للإستفادة من ” جولة رامبرانت”عبر مواقع تاريخية ترتبط بالفنان، خاصة، و”ليدن” عامة. و” فان جوخ” يلازمك في الحل والترحال، من خلال علب الحلوى وكؤوس القهوة الخزفية، ولوحاته المطبوعة، في حجم “الكارت بوستال” المعدة للإرسال، فضلا عن متحفه الشهير ب”أمستردام”، وإقامته الدائمة بمتاحف المدن الهولندية، والعالمية الشهيرة.
واستفادت “هولندا”، في هذا السياق، من التعدد الثقافي، والحضار أيضا، الذي سمح بتطعيم الفضاء الهولندي بروافد إفريقية وأسيوية وأنجلو سكسونية وأمريكية لاتينية، مع تميز دائم للخصوصية الهولندية المحافظة على جذوة الذائقة الفلامانية في تعاملها مع مكونات المكان المائية والنباتية والإنسانية بتاريخها المادي والرمزي.
1-نيروز أو نوروز هو أول يوم في السنة الشمسية عند الفرس. ويوافق الحادي والعشرين من مارس. وبذلك تحول هذا اليوم ‘اى يوم للفرح والاحتفال بمقدم الربيع وما يصاحبه من تحولات الطبيعة المتجددة.