عبدالرحيم مؤذن 26 02 2013
تحية إلى “مجلة الآداب”
تردد، مؤخرا، خبر توقف مجلة ‘الآداب’ العريقة عن الصدور. والأمر يتطلب وقفة قصيرة لا تتجاوز هذه التحية المتواضعة لمنبر ثقافي مميّز، شكل فكرنا ووجداننا وطموحاتنا التي كانت، في مرحلة الستينيات، في عرض السماوات والأرض الآداب: عمرها عمر جيل، بل عمر الحلم الذي تحول إلى حقيقة، بعد أن عرف الشعب طريقه، وأصبحت الأماني إرادة، في مرحلة المد الناصري (صدرت مجلة ‘الآداب’ سنة 1953، بفارق سنة واحدة عن ثورة يوليه 1952 التي كانت وراء تحولات ما كان يسمى بالعالم الثالث، وصعود حركات التحرر المواجهة لأشكال الاستعمار القديم والجديد. جاءت مجلة الآداب بمنظور جديد للإبداع الأدبي من خلال الآتي: أ- لم يعد الأدب مفردا، بل أصبح جمعا. الشق الأول، وهو السائد إلى عهد قريب في الساحة الثقافية العربية، ينطلق أصحابه من الرؤية ‘الواحدية’ الضيقة، والتي تحصر الإبداع في الشعر والنثر. أما الشق الثاني، فمنطلقه الأساسي يقوم على المنظور الأجناسي، شعرا وسردا ومقالة ونقدا وخاطرة وسيرة ذاتية وغيرية وترجمة لآداب الشعوب من كل الآفاق. وقبل ذلك، أو بعد ذلك، وازى المقال السياسي غير المباشر، والتحليل العميق المستند إلى مرجعية نفسية أو اجتماعية أو تاريخية أقول وازى المقال، بالمواصفات السابقة، النص الأدبي، في سياق التنوير والدفاع عن قيم العدل والجمال والحرية، وإعادة، من جهة أخرى، الاعتبار للإنسان العربي عبر أسئلة الثقافة الحديثة والمعاصرة. وإذا كانت مجلة الآداب قد تجاوزت، في الرؤية الفكرية، من ناحية، والمنتوج الأدبي، من ناحية أخرى، بعض المجلات الرائدة (الرسالة للزيات على سبيل المثال لا الحصر)، فإن أهمية هذا التجاوز تكمن في مراهنة المجلة على المستقبل، في حين كانت الكثير من المنشورات العربية- الرسالة المشار إليها سابقا- مرتبطة بالماضي، رؤية وممارسة. وبالمقابل، لم تفتقد المجلة أواصر القربى (صلات الرحم) مع مجلات شرقية (مصر خاصة) مميزة انتمت إلى المشتل الجديد مثل (الفكر المعاصر) الفلسفية/ ومجلة المجلة الأدبية-فترة يحيى حقي خاصة- و(الكاتب) الثقافية بآفاقها المفتوحة على كتاب إ فريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. وظل المنتوج الأدبي العربي الحديث، والمعاصر، حاضرا بكثافة وانتظام في العدد العادي، أو في الأعداد الممتازة، أو في الملفات الخاصة أو في اللحظات الحرجة- سلبا أو إيجابا- التي مر بها المجتمع العربي سياسيا واجتماعيا وثقافيا. وفي كل الأحوال شكلت المجلة نافذة لمعرفة الساحة الثقافية العربية أسماء وأجناسا أدبية وتراكما معرفيا. ولا شك أن ظهور اسم من أسماء كتابنا على صفحات المجلة، كان له طعمه الخاص الذي يسمح للقارئ بقراءة محمد زفزاف، الطيب صالح إسماعيل فهد إسماعيل، صبري حافظ حيدر، جعفر العلاق، أمين صالح، البردوني… الخ، أقول: يسمح ذلك بقراءة الاسم في امتداده الرمزي الذي شكل تاريخا موازيا لفضح المسكوت عنه في تاريخنا الرسمي. فالمجلة، بهذا العمل، أ سست لجبهة ثقافية مبكرة خلخلت الثوابت، وأعادت النظر في المسلمات، وفضحت الأوهام، في الفكر والسلوك والمنتوج الثقافي المدعم لما سبقت الإشارة إليه. لم تكن مجلة الآداب تدغدغ القارئ بمساحيق الإشهار المجاني والألوان الزائفة، كما هو الشأن اليوم، بل كانت مجلة بالأبيض والأسود- ما عدا بعض الأغلفة التي واكبت مناسبات معينة مثل العيد الفضي أو الماسي للمجلة- همها الأساس نشر الإبداع، الإبداع فقط. أما الإشهار فلم يخرج عن هذه الدائرة، بحكم ارتباطه بالمنتوج الأدبي للكتاب العرب، دون غيره، والإعلان عنه في مواقع عديدة من المجلة. ومن ثم فهو إعلان ثقافي شكلا ومضمونا، يساير إيقاع الحركة الثقافية التي كانت تنغل، آنذاك، بأسئلة الماضي والحاضر والمستقبل. ولم تكتف المجلة بذلك، بل خلقت أبوابا ثابتة، سمحت بتوسيع دائرة القراءة والقراء، فضلا عن الرفع من إيقاع الجدل حول ما تنشره المجلة من إبداعات مختلفة، وقراءات متعددة. (رسائل الوطن العربي/ قرأت العدد الماضي..). ويظل الكتاب الموازي الصادر عن المجلة، في مختلف المجالات الفكرية والإبداعية، وشما لا يغيب عن الذاكرة. من يستطيع نسيان روايات رائدة، ومنها رواية (الحي اللاتيني) لصاحب الدار المرحوم (سهيل إدريس)؟ من يستطيع تجاوز دراسات نقدية مؤسسة لمفاهيم النقد والمعرفة؟ من يستطيع نسيا ن الفهود السود وأنجيلا ديفيس و مالكوم إكس وهربرت ما ركوز وشي غيفارا و نيكوس كازانتزاكيس وزوربا اليوناني؟ من يستطيع تجاوز معجم المنهل، بطبعاته المتعددة إلى اليوم، بعد أن كنا نقتات على (منجد الطلاب) أو (المعجم الأصفر) الصادر عن إحدى الكنائس اليسوعية اللبنانية؟ belot استطاعت مجلة الآداب أن تحافظ على طرفي معادلة لا محيد عنهما في الممارسة الأدبية: الطرف الأول مجسدا في النزعة الوجودية بمرجعيتها الفرنسية خاصة، والطرف الثاني مجسدا في النزعة العروبية، فضاء وتاريخا وإبداعيا أدبيا وقضايا إنسانية. الوجود، في هذ ا السياق، يأخذ منحاه الأنطولوجي، من خلال قضايا الهوية، وأبعادها المتعددة. ومن ثم كانت المجلة، منذ انطلاقتها الأولى، تحرص أشد الحرص على إثارة الأسئلة الجذرية المرتبطة بالذات المتعددة، في علاقتها بالآخر المتعدد بدوره، دون أن يمنع ذلك من الإلحاح على البعد الإنساني في تجلياته الفكرية والجمالية. وبالرغم من معاناة المجلة، في العقدين الأخيرين، من مؤثرات الداخل (المحاصصة الطائفية/ العملاء بأنواعهم/ الصهيونية/ المحيط الإقليمي والمجلة منعت من الدخول إلى دول عربية عديدة/ دقائق القراءة اليتيمة الستة السنوية المخصصة للقارئ العربي! / الحصار الداخلي على مستوى التمويل والتوزيع،الخ) أقول، إن ذلك لم يمنع المجلة من المقاومة والاستمرار. تحضرني، الآن، الرسالة المؤثرة التي وجهها سماح إدريس، إلى والده سهيل إدريس، بعد غياب هذا الأخير، مبرزا فيها نوعية العلاقة التي ربطته بالأب البيولوجي، وهو الأب الرمزي أيضا من جهة، وبالواقع، بمعناه الواسع، من جهة ثانية. وكشفت هذه الرسالة عن المشروع النبيل الذي تبنته المجلة، والذي سيحرص فيه الخلف على احترام السلف، مع مراعاة طبيعة التحولات المتسارعة في زمن يمتلك بدوره أسئلته الخاصة. يمكن الاستئناس بكتابات سماح إدريس المتعددة، خاصة تجربته الأخيرة الموجهة للأطفال، والتي تعكس رؤية الكاتب، من خلال الطفل، للمسؤولية، وحب الوطن بصيغ جمالية متعددة. وعماد الرسالة، فضلا عن مواقفه اللاحقة ثقافيا وسياسيا وإبداعيا، يتجسد في الحفاظ على المجلة المستقلة في أرض عربية مزروعة بكل انواع الألغام. ويمكن الرجوع إلى افتتاحية المجلة، في هذه المرحلة، وإلى، من جهة أخرى، طبيعة المواد والملفات المنشورة، لنلمس نوعية هذه الاستقلالية التي انتصرت للإنسان العربي بعيدا عن حسابات الساسة، أو أمراء الحرب، دون نسيان المتاجرين بالثقافة ذاتها. الآداب مؤسسة ثقافية وتجارية، وهذا حق مشروع مادامت الثقافة سلعة من السلع الرمزية- وللشوام باع طويل في ذلك- تقتضي منتجا ومستهلكا. و’الآداب’ قدمت سلعة نظيفة لعبت دورها في نمو الفرد والمجتمع، وما تزال…
ملاحطة: كانت مجلة الآداب أعلنت في العام 2012، توقفها عن الصدور «مؤقتا» إلى حين توافر «صيغة جديدة قادرة على الاستمرار سنوات طويلة»، مؤكدة أن قرار الإقفال ليس على خلفية مالية، بحسب ما جاء في مقال افتتاحي لناشرها في عددها الأخير