هذا المقال يحتوي على: 311 كلمة.

حجم الخط

remove add

عبد الرحيم مؤدن

المحددات الأنماط ، الدلالات

في تاريخ القصة العربية – ومنها القصة المغربية – كان السرد البوليسي عنصرا من عناصر التأسيس في هذه التجربة. وفي سير وحوارات الكتاب، فضلا عن دراسات النقاد والباحثين، نلمس هذا التأثير للنص البوليسي كتابة وقراءة وأبعادا فكرية واجتماعية وأخلاقية.(1) وبالرغم من أهمية هذا الدور للنص البوليسي في التجربة القصصية العربية، فإن وضعه الاعتباري جعل منه – وهو لم يشذ في ذلك عن الأدب العالمي أدبا من الدرجة الثانية، أو ” أدبا صغيرا” مقابل الأدب الكبير. فالأول يكتبه الهواة والمتأدبون، والثاني يكتبه الأدباء المحترفون العارفون بتقاليد السرد وفنونه.

 الأول يُقرأ من قبل قراء عاديين لتزجية أوقات الفراغ أما الثاني في تداوله قـراء ينتسبون إلى نخبة مميزة تطمح إلى تحقيق متعة هادفة، واتباع نموذج معين.

 بين الأدب الكبير والأدب الصغير، وجدت القصة البوليسية في وضع لا تحسد عليـه من حيث التراتبية النقدية، ولكنها في الوقت ذاته، حققت مقرونية عالية مما جعلها تنتسب إلى أدب الشعب)) بحكم استنادها – فضلا عن عنصر المتعة والإمتاع المركزي في النص البوليسي إلى مقومات أساسية تجسدت في ابتعادها عن صنعة البيان واعتمادها لغة وظيفية ” تمتح من اليومي، ومن مستجدات العصر، مما سهل عملية التلقي لدى قراء حملوا النص في الحل والترحال عبر فضاءات عديدة انسحبت على الساحات العامة والحدائق ومحطات المترو، عوض المكتبات والمنازل والفضاءات المقننة بتقاليد مجتمعية معينة.

تندرج القصة البوليسية تحت إطار السرد القصصي عامة ومن ثم فهي ليست جنسا قائما بذاته، بل هي من الأنماط السردية المتداولة مثل قصص الخيال العلمي ، وقصص الأطفال… غير أن انتماءها إلى السرد، لا يمنع من تميزها عن الأنماط السردية المتداولة أو الشائعة. ويعد فان دين الذي أورده (تودوروف في كتابه ( شعرية النشر)) من الذين نظروا للنص البوليسي من خلال عناصر محددة أهمها ضرورة توفر الجريمة، ثم المجرم من جهة، وكذا التحقيق البوليسي وبالتالي رجل الشرطة من جهة ثانية. وما بينهما ينفتح الصراع، وأساليب المطاردة، وتتدرج الحبكة تبعا لذلك ؛ بين الانغلاق والانفتاح، من جهة ثالثة، وصولا إلى نهاية حتمية لا غنى عنها في القصة البوليسية مجسدة سقوط المجرم في قبضة بعد أن تم الكشف عن خيوط الجريمة وملابساتها المتعددة. فالموقف الأخلاقي العقاب والثواب – يتحكم في رؤية الكاتب أو المجتمع ، فضلا عن أبعاد النص، ودلالاته المختلفة الممثلة لقيم المجتمع من قانون وسلطة وتعايش بين الفئات الاجتماعية.

ومن الضروري التمييز بين القصة البوليسية ) والقصة ذات الإيقاع البوليسي الذي قد يتوفر في قصص عديدة ونصوص سردية مختلفة. فالتفاعلات النصية لا حدود لها، سواء كانت أدبية أو غير أدبية، بهدف توظيف البنية البوليسية بأبعاد محددة. ف “اللص والكلاب” (5) لنجيب محفوظ، بالرغم من الجرائم المتعددة، والمطاردات المستمرة من قبل الشرطة، تظل رواية واقعية ابتعد فيها نجيب محفوظ عن واقعيته (التقليدية) بعناصرها الهادئة في الوصف والسرد و التأمل والاستبطان في حين استفادت رواية اللص والكلاب من إيقاع الرواية البوليسية السريع الملتبس بأجواء الجريمة والمطاردة لرجال الشرطة، دون أن تكون رواية بوليسية ، مادام الهدف عند نجيب محفوظ مقاربة الواقع الستيني من موقع جديد انتقد فيه المتاجرين بشعارات الثورة ومحترفيها الأدعياء، مثل رؤوف علوان وبطانته. وبالمقابل لا تصدق صفة الإجرام على سعيد مهران الذي انبرى لتصفية هؤلاء الخونة بعد أن تشرب بمبادئ العدل والمساواة حتى النخاع فهو (العادل) الذي يحقق العدل، بطريقته الخاصة، كما جسدتها بعض نماذج الخارجين عن القانون الذي لا يطبق على صانعيه، بل يطبق على الذين لم يساهموا في صنعه بحكم امتلاك الأقوى للسلطة المادية والرمزية متحولا بذلك إلى مؤسسة متكاملة. (صعاليك العصر الجاهلي ؛ شخصية “روبن هود” في الحكاية الشعبية الإنجليزية شخصية زورو في الشريط السينمائي ؛ الفتوة في المحكي الشفهي والفصيح ؛ اللص الظريف عند موريس لبلان…)

إن البنية البوليسية في اللص والكلاب ، وفي نماذج مشابهة، مجرد مرآة للبنية الأعمق مجسدة في البنية الواقعية. في حين تشكل الجرائم والمطاردة البوليسية مجرد عناصر ترميمية تؤثث الهدف الواقعي، بخلاف النص البوليسي الذي تصبح فيه الجريمة، والكشف عن ملابساتها، هي البداية والنهاية أي تصبح غاية في ذاتها هي البؤرة وما عداها ضفاف ودوائر تتلاشى ، تدريجيا، في انتظار تجددها بين الفينة والأخرى، لإنارة بعض مراحل الجريمة أثناء الصراع بين المجرمين ورجال الشرطة، بين أفراد العصابة الواحدة أحيانا، أو بين العصابات المتناحرة أحيانا أخري.

من هنا انفتحت القصة البوليسية ، في سياق التفاعلات النصية، على أنماط القص القريبة .والبعيدة فهي قد انفتحت قربا على قصص المغامرات وقصص الخيال العلمي. في المستوى الأول يتحقق القاسم المشترك بين البنيتين في الحركة المتجهة إلى الإجابة عن سؤال دائم هو: كيف وقع ما وقع؟ وفي المستوى الثاني نجد عوالم عديدة قائمة على المفاجأة والغريب والمدهش وتوظيف العلم والتقنيات الحديثة، والأساليب الملغزة، أي التي ترتبط بمتاهات عديدة ومسارات معينة تخلق توهمات لدى القارئ يتوزع فيها بين المجرم الحقيقي والمجرم المفتعل إلى الحد الذي “نشرت دار نشر ملفات مطابقة للحقيقة، مكونة من تقارير الشرطة المتخيلة، ومن استنطاقات وصور وبصمات وعينة من خصلات الشعر… هذه الوثائق الواقعية كانت تقود القارئ إلى اكتشاف مرتكب الجريمة، وفي حالة عجزه عن ذلك هناك ظرف مغلق يلتصق بالصفحة الأخيرة ويقدم حلا للعبة “.(6)

الأشكال القصصية البوليسية: يمكن الحديث عن أشكال الكتابة القصصية البوليسية، من خلال المنجز النصي السائد على الشكل التالي :

 1 – الرواية الجاسوسية : يستفيد هذا النمط الروائي من تقنية النص البوليسي في جانب التحقيق الذي يأخذ في الرواية البوليسية مسارات معقدة، بعد أن أصبح الصراع في هذا النوع من الكتابة – رواية الجاسوسية – صراعا بين الدول والمعسكرات خاصة أثناء الحرب الباردة بمظاهرها المختلفة شرقا وغربا

 2 – الرواية البوليسية التقليدية (النموذجية): وهي الرواية التي تحترم قواعد التأليف في القص البوليسي من جريمة وتحقيق ومطاردة ونهاية تكشف أسرار الجريمة. ومن الطبيعي أن تخلو القصة من التحليل النفسي من جهة، ومن القص العاطفي من جهة ثانية. وبالإضافة إلى ذلك المعجم الوظيفي، كما سبقت الإشارة المرتبط باللغة اليومية البعيدة عن التقعر البلاغي، أو الحذلقة اللغوية.

3 – الرواية ذات اللغز : وتتميز بالجريمة الباردة التي مارسها أنواع من العملاء شرقا وغربا. والذين خضعوا بدورهم للمطاردات الدموية والتحقيقات لامتلاك أسرار الدول والمؤسسات العلمية والعسكرية والأمنية. وقد تقتصر هذه الروايات الملغزة على الجريمة الفردية، داخل عصابات محدودة أحيانا، أو من ناحية أخرى، بسبب مصالح ذاتية تتحكم فيها نـزوات خاصة، أو عقد نفسية، وظروف اجتماعية سلسلة الروايات السوداء – تجربة أجاثا كريستي …).

وفي كل الأحوال، يمكن القول بخصوصية النص البوليسي في كل بلد على حدة حسب طبيعة المجتمع من حيث التقدم والتخلف من جهة وحسب التراكم المنجز في هذا المجال. وهذا ما يؤكده (مارسيل) (دوهاميل أثناء حديثه عن القصة البوليسية الفرنسية التي…يتبع

المصدر:

فصول
  • عنوان المقالة: دراسات : “القصة البوليسية في الأدب المغربي الحديث” بقلم: عبد الرحيم مؤدن رقم العدد: 76 تاريخ الإصدار:01 يونيو 2009
أرشيف الشارخ
شارك هذا المقال على:
القصة البوليسية في الأدب المغربي الحديث

كتب 83 مساهمة في هذه المدونة.

حول الكاتب :

إن أ.د.عبد الرحيم مؤذن، شخصية إنسانية وثقافية وإبداعية.فهو أديب وقاص وناقد مغربي وباحث خاصة في أدب الرحلات . ولد بمدينة القنيطرة المغرب سنة 1948 وتوفي بهولندا في 27 يوليو 2014م.

علق على هذا المقال :

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

*account_box
*email
*comment_bank
You may use these HTML tags and attributes: <a href="" title=""> <abbr title=""> <acronym title=""> <b> <blockquote cite=""> <cite> <code> <del datetime=""> <em> <i> <q cite=""> <s> <strike> <strong>