قصة للفتيان
عبد الرحيم مؤدن
عمري عمر الماء ولدت يوم ولد الماء، من أين سأبدأ حكايتي، لا بداية ولا نهاية !! أنا مجرد سمكة مسكينة من بين أسماك لا عد لها ولا حصر، لست في شهرة سمك القرش، وهو يرفع السفن عاليا بضربة من ذيله الكاسر، لست في قدرة الأخطبوط بأذرعه الأفعوانية الثمانية التي تسمح له بالأكل والغسل والدفاع والهجوم والمصافحة والرقص والتصفيق والهروب !!! كل ذلك دفعة واحدة، وفي وقت واحد !!! أطراف خارقة ووظائف خارقة أيضا !!! ولست مثل الحبار بسائله السحري الذي يدوخ به العدو عند الدفاع عن النفس !! أنا مجرد سمكة مسالمة لا تعرف إلا الماء، لا فرق لديها بين ماء النهر أو ماء البحر، أنا مجرد سمكة مسالمة، أنا سمكة الماءين، والحكاية التي سأرويها لكم هي حكاية الماء الذي لا نعرف موجته الأولى، نقطته الأولى، هديره الأول، غرغرته الأولى… الحكاية مثل الماء، والماء ملك لكل إنسان يريد شرب الماء أو الحكاية…. نعم تشرب الحكاية كما يشرب الماء… نحن قد لا نشرب الماء بطريقة واحدة، ولكننا نشرب الماء جميعا بطريقة أو بأخرى، الحكاية ملك للماء الذي ينقلها من مكان إلى آخر، يرفعها إلى قمم الجبال فتتحدث بها الثلوج، ويسر بها أعماق الأرض فتطلع أزهارا وثمارا، وقد تتوقف قليلا فتصبح بحيرات فاتنة، ثم تتابع السير زاحفة بأجسادها الفضية بعد أن تحولت إلى غدران لا تمل الرقص بين السهول والأودية هكذا ينتشر الماء … هكذا تنتشر الحكاية فتصبح حكايات، أنهارا من الحكايات ! أنا مجرد سمكة لا أعرف إلا الماء، لا أعرف إلا لغة الماء، لا أحمل حقدا أو ضغينة لكائن من كائنات هذا العالم !! هل سمعتم عن ماء حاقد أو ضاغن؟ ! أنا والماء سيان. حكايتي هي حكاية الماء، سأروي لكم ما حكاه الماء… سأروي لكم حكايتي مع الماء… حكايتي مع الماءين…
كان ذلك في زمن سحيق لعله القرن الخامس قبل الميلاد، قرن “فينيقيا” سيدة البحار والأنهار، وكان أسطول الفينيقيين، كما تعلمون لا أول ولا آخر إلى الحد الذي لم يعد هناك مكان للماء، أسطول متراص يبدأ “صيدون” أو “صيدا” كما نسميها الآن مخترقا ممالك بحرية عديدة، وموانئ زاهية دون أن تتوقف أمام أعمدة الرخام التي حملها، يوما ما “هرقل” على كاهله عند مضيق جبل طارق فرفع أوربا شمالا، على كتفيه، ودفع برفق بذراعيه المفتولتين إفريقيا جنوبا، حتى تتابع السفن طريقها نحو الأطلسي، ومنذ ذلك اليوم، لم تهدأ حركة السفن بين الضفتين، ضفة شمال المتوسط، وضفة جنوبه، وبمجرد أن تغيب آخر أعمدة هرقل ينتشر الأزرق اللانهائي للمحيط … ما علينا، لنتابع الحكاية، كان أهل “فينيقيا” قد خرجوا في ذلك اليوم من “قرطاجة” وكأنهم خرجوا لجولة صباحية أو مسائية بأحد شوارع عاصمتهم المشتعلة باحتفالاتها الكرنفالية الني لا تنتهي، احتفال يتلوه احتفال آخر، كل نصر ب”كرنفال” !! وما أكثر الانتصارات !! وما أكثر الكرنفالات !! حفل وراء حفل عشرات الأقوام الصفر والحمر والسود والسمر والبيض، شعوب من كل أنحاء الأرض، سحرة بهلوانيون، أسود ونمور وفيلة، لاعبو النار، وهم يخرجون الشهب اللامعة من أفواههم مثل التنين الصيني الشهير برؤوسه العديدة، أو قد يمررون المشاعل المتوهجة على أجسادهم اللامعة بالزيوت السحرية الشهيرة بضفتي المتوسط، أفواه فاغرة من شدة الدهشة، والأجساد دائمة اللمعان، قوية البنيان بعضلاتها النافرة… أكوام من الدجاج في صحون عريضة من خزف، وكثبان خراف مشوية في صحون أخرى مستطيلة من فضة !!! كؤوس من بلور، وأخرى من نحاس وذهب، وموائد طويلة من أقصى “قرطاجة” إلى أقصاها تحلق حولها آلاف الجنود الذين أخرجوا خناجرهم الحادة، وانقضوا على أكداس اللحم الفائح بتوابل الشرق وبهارات الهند والسند، كل “قرطاجة” كانت تحتفل ذلك المساء وبدون استثناء ! كل “قرطاجة” كانت تردد، في تلك اللحظة اليوم حفلـ وغدا حفل” البيوت مشتعلة بالَأضواء والطرقات والساحات بالمشاعل وكأنها شموس لا تغيب ! والأنغام تصدح في كل مكان، لا حركة ولا سكون !! ما عدا الطابق العلوي من القصر الإمبراطوري.
الأضواء كانت تعم الأسفل، أما في الأعلى فكان الصمت يرين على كل جنباته وأنحائه… ومع ذلك لم يكن هذا الطابق مظلما البتة، بل كان شحيح الضوء منبعثا من إحدى نوافذه التي عكس أحد مصراعيها ظل رأس ضخم بشعر مفلفل، كانت تتابع الاحتفال الصاخب، كان الرأس المطل لإمبراطور الشرق والغرب القرطاجي الأميرال “حانون، ورتبة “الأميرال” لم تنمح لع عبثا، بل إنه نالها عن جدارة واستحقاق فإذا كان الناس فراشهم من صوف أو تبن أو شجر، ففراش “حانون” من ماء لا يغادره ليل نهار، في حالة الحرب أو السلم… فراشه مثل صهوة الفارس، هذا يركب الجواد و”حانون” يركب السفينة تلو السفينة، ظل رأس “الأميرال” يتابع الحفل بابتسامة ودود، تم تراجع إلى الخلف قليلا، وأغلق النافذة بهدوء، ميمما وجهه نحو خريطة جلدية معلقة على جدار مواجه للنافذة… وأخذ “الأميرال” يتابع باهتمام خطا أحمر بدأ ب “طنجة” واتجه نحو “ليكسوس” أو العرائش حاليا… فجأة توقفت حركة العينين، ووضع “الأميرال” سبابته عند بداية استدارة الخط الأحمر… كان الخط في هذا المكان أشبه ببطن منتفخة… “لعلها بطن ضخمة لامرأة حامل بعشرات الأطفال” !! ذلك ما همس به الأميرال لنفسه وهو يمسد البطن المنتفخة بحركات حانية دون أن تفارقه الابتسامة الساخرة، ولم تكن البطن المنتفخة على الخريطة الجلدية ممتلئة إلا بالماء !!! الماء فقط ! ماء هذا المحيط الشاسع الذي يزخر بأشياء كثيرة لا يعرفها إلا “الأميرال” !! ولن يتردد الجنود لو أخبروا بماء هذه البطن الغريبة في الذهاب إلى أقصى البحار، فهم قد تعودوا على معارك البحر… أما البر فهو مجرد وقفة سريعة لشراء قبضة تبغ أو اقتناء تذكار نادر ! واحتفالهم الليلة هو آخر احتفال قبل أن ترتفع الأشرعة مع الفجر. “الأمكنة بالنسبة إليهم متشابهة” تابع “الأميرال” الهمس لنفسه، “وهي لا تتعدى المكانين: مكان للنصر ومكان للهزيمة… لكن، هذا المكان يتجاوز كل الانتصارات والهزائم، يتجاوز كل الأحلام والخيالات…” أخذت كف “الأميرال” تمسح من جديد بحنو البطن المنتفخة فجأة، صرخ بعنف ونظره لا يفارق الخريطة الجلدية: “هنا… هنا في هذا المكان” ! امتشق خنجره الفضي بقبضته العاجية المنحوتة على شكل رأس امرأة قرطاجية تدلى من أذنيها قرطان شبيهان بهلالين كبيرين. هنا …في هذا المكان” !! وقبل أن يكمل “الأميرال” الكلمة الأخيرة رشق النقطة السوداء، عند بداية استدارة البطن المنتفخة،بضربة سديدة من خنجره، أصابتها في الصميم !! “هنا !! في هذا المكان” كرر ذلك مرة ثالثة، ثم ارتمى بإعياء، على الأريكة العريضة، وبصره لا يغادر النقطة السوداء الحافلة بأسرار لا يعلمها إلا “الأميرال”… أغمض “الأميرال” عينية، والنقطة السوداء لم تغادر ذهنه بل إن النقطة السوداء أخذت تكبر شيئا فشيئا، إلى أن تحولت إلى راية ضخمة اقتربت من ذراعيه المفتولة، فجدبها بقوة نحو الأسفل بعد أن أحس بلسعة برد.. وظل يجذب بقوة إلى أن أيقظته ضربات متتابعة على باب الحجرة، فنهض مذعورا، وأخذ يدعك عينيه وهو ما زال يجذب لحاف الوبر الأسود المنزلق على ذراعه العارية، ارتفعت أصوات النفير المبحوحة مؤذنة بالرحيل، كانت الأصوات الصادرة من قرون الوعول الهادرة المرتفعة فوق الأسوار الخشبية، في هدأة الفجر، وكأنها صادرة بالفعل عن هذه الحيوانات العصية على الترويض، وبدت الساحة خالية من مظاهر الاحتفال الصاخبة، وكأن شيئا لم يكن !! ونهضت الكلاب المتثائبة من مجثمها، وأخذت تتشمم أرجل الموائد والكراسي، بتفزز، بعد أن تدلت بطونها الضخمة بكل ما لذ وطاب، كانت أسعد كلاب الأرض آنذاك !!
خرج “الأميرال” “حانون” في ذلك الصباح الباكر ممتطيا صهوة جواده، وتوسط الساحة العريضة التي أخذت تدب فيها الحياة بالتدريج، كان ذهنه ما زال مشدودا إلى خريطة الأمس، ولم ينقده من خواطره إلا حمحمة الجياد وقعقعة السيوف وهي تعود إلى غمدها… صعد المنصة الدائرية وخاطب الجنود بقامة مشدودة وعينين حادتين.
أيها الجنود البواسل:
صباح الخير.
ص..صا..باح ال..خي..ر أيها الأميرال.
رددت ذلك أصوات ناعسة وهمهمات الجنود المتداخلة
لن تكون هذه الرحلة شبيهة بالرحلات السابقة، فاضت خزائننا بالذهب الأحمر والأصفر والأبيض، كل امرأة، من نسائنا، طوقناها بعقود الجواهر وفصوص الماس … ذهب في الملاعق والصحون والقدور … يكفينا ذهبا، حتى الصغار رفضوا قطع النقد الذهبية أو الفضية …
هذا صحيح أيها القائد العظيم.
شكرهم الأميرال بابتسامة عريضة، ورفع يده طالبا الصمت.
لن تكون رحلتنا بحثا عن حسان سامقات مثل أشجار الأرز القريبة من هذا القصر المنيف… ففي قصورنا حسان من كل بقاع العالم، من بربر وروم وهنود وعرب… لن تكون رحلتنا من أجل فرو الدببة أو جلود النمور ولبدات الأسود، وأنياب الفيلة، فأمام عتبات دورنا وداخل معابدنا الشيء الكثير…
لن أقول لكم أكثر مما قلت… هي رحلة لا تشبه أي رحلة قمنا بها في الماضي أو الحاضر، بل والمستقبل !! …نعم المستقبل أيضا … لن أزيد شيئا”.
خيم الصمت على الجنود، وتقدم الأميرال بشعره المفلفل ووجهه الملوح بسمرة المتوسط، نحو ناب القصر الخلفي واختفى عن الأنظار، ارتفعت هتافات الجنود بعد برهة من الزمن، وأخذ الأميرال، في هذه الأثناء، يداعب قلادته الذهبية الضخمة التي اتخذت شكل شمس مدببة الرؤوس، لو تفارقه هذه القلادة في الحل والترحال، هي جالبة للحظ الذي لم يخذله يوما ما، طوال معاركه البحرية، حرك رأسه بعنف وكأنه يطرد فكرة غريبة، ولكن عدوي في هذه الرحلة لن يكون بشرا أو حيوانا كاسرا أو قلعة حصينة أوسفينة مدججة بالمدافع والرجال الأشداء… عدوي سمكة !!! يالها من مهزلة !! ولم يشعر الأميرال إلا بالصدى المتردد في أنحاء الغرفة “مهزلة …زل..زل..زل..ة” وبعد أن التفت يمينا ويسارا، خاطب نفسه من جديد بصوت هام: “نعم سمكة !! سمكة تضاهي كل الوحوش المفترسة !! قائد دوخ العالم، وحارب في كل البحار، وها هو الآن يطارد سمكة مثل طفل صغير؟ ! … من يدري؟ لعلها مؤامرة جديدة من أعدائه الرومان !!”
دخل الحاجب، بعد أن أدى التحية العسكرية، وهمس في أذن الأميرال، هز هذا الأخير رأسه موافقا، وانصرف الحاجب على رجه السرعة”… لن أترك لهم البحر ! طعم ألقى به هؤلاء الأعداء في هذه البحار حتى يوقعوا بي في مجاهل هذا المحيط.. لن أترك لهم البحر، أنا والبحر توأمان… الماء يؤدي إلى الماء… ماذا يطلقون على ذلك النهر الملتصق بالبحر…؟ ! كل مكان في هذه الدنيا وجد فيه ماء ملك لحانون، ماذا يطلقون على ؟؟ ! اتجه الأميرال إلى الخريطة الجلدية، وقرب رأسه من البطن المنتفخة، وقرأ بصون مرتفع سبوس…سبوريوس…سبو…نعم نهر ثسبو” استلقى بإعياء شديد على الأريكة الشبيهة بسفينة فينيقية استقرت على البحر من جلود النمور والتماسيح ووبر السباع وغيرها من الحيوانات الكاسرة، نظر إلى رأس الأريكة المنحوت من خشب على شكل رأس كبش، معبود القرطاجيين، عاد إلى الهمس من جديد “لو أخبرت جنودي بهذه السمكة لتمردوا علي، ورموا بأسلحتهم عند أقدامي… سيعتبرون الحملة إهانة لشجاعتهم التي سر بذكرها الركبان هم يعرفون أنها حملة جديدة لفتح يسيل نهرها ذهبا … حملة النهر الذهبي … هذا هو شعار هذه الحملة… النهر نهري … وسأجعله يسيل ذهبا”
تقدم الأميرال نحو باب مقصورته الضخمة، وتوقف قليلا أمام إكليل الغاز المطوق لٍأس نمر محنط معلق على أحد الجدران بنابين بارزين، ابتسم الأميرال في وجه النمر وهو يمد شفتيه إلى الأمام معاكسا النمر بإخراج شفته السفلى ثم التقط الإكليل بحرة رشيقة ووضعه بعناية على رأسه المفلفل.
في هذه اللحظة فتح الباب، وانبعثت فرقعة صاخبة من أقدام الحارسين الواقفين أمام الباب، وتسربت نسمة بحرية، آتية من جهة الغرب إلى الغرفة الإمبراطورية، تقدم الأميرال بخطوات واثقة نحو السفينة الضخمة الراسية بأنفة وافتخا، كانت مقدمة السفينة تشبه النصف العلوي ل “دينصور” منحوت من خشب العرعار، كان وجه الديناصور يحمل الكثير من ملامح الأميرال خاصة في النظرة القاسية للعينين الذكيتين، أما الجانبان فكانا يشبهان بطن فيل ضخم رشق بسهام عديدة … لكنكم لم أمعنتم النظر قليلا في هذه السهام المتينة لوجدتم أنها مجاديف صلبة تتحرك بإيقاع رتيب استعدادا للانطلاق، أجال الأميرال بصره في أخاديد العضلات النافرة لظهور العبيد البرونزية اللامعة، وبالرغم من ضعف حركة الريح في هذه الأثناء فإن آهات الألم الصادرة عن العبيد نفخت في الأشرعة أنفاسا نارية بدأت في دفع السفينة بعيدا نحو أعماق المحيط…
وتمنى الأميرال في هذه اللحظات أن يصل إلى هدفه المرسوم، في لمح البصر، ولذلك لنم يتردد عند دخوله المقصورة الإمبراطورية، في إخراج رقعة جلدية مطوية بعناية، من خزانته الخاصة، وأخذيمسدها بهدوء على طاولة العمليات، ثم وضع سبابته على دائرة سوداء، اخترقها خط أفعواني أحمر اللون نازلا من جهة الشمال نحو الغرب كان الخط الأمر توازيه حروف فينيقية تعلن اسم النهر… كانت بهذا الشكل الغريب SUBUS وعلى ضفتي النهر انتشرت أشجار الدون تتخللها نباتات الأقحوان وسيقان قصبية لا عد لها ولا حصر، رؤوسها أشبه بكيزان الذرى وبجانبها أشجار البلوط الذي سمن إلى أن أصبح حجم أصبع الموز، وبين الفينة والأخرى يتردد صدى زئير الأسود والنمور والفيلة ظلت سبابة حانون ملتصقة بالدائرة السوداء، “هنا المدينة الموعودة، هنا تسكن السمكة اللعينة !! كز الأمبراطور أسنانه وهو يلعن السمكة، بينما كانت السفينة الإمبراطورية تسابق الريح لتصل إلى هذا المكان وفي إثرها سفن لا عد لها ولا حصر، حملت ما يقرب من ثلاثين ألف راكب رجالا ونساء نحو عاصمة قرطاجة الجديدة.
أشار حانون إلى الحاجب الذي أشار بدوره صاحب النفير الذي لبى النداء في لمح البصر… اعتلى “حانون” مقدمة السفينة، ووضع يده على مقبض سيفه:
– أيها الجنود الأبطال:
هانحن نقترب من الجنة الموعودة… مقترب من نهر الذهب الذي لا ينبض ، فكرت طويلا في الاسم الذي سنطلقه على هذا المكان … سنبني مدينة اسمها “تيماتيريا”… نم “تيمانيريا” اسم أقرب إلى اسم امرأة …أقرب إلى القطط الأليفة، أو لبوءة قابلة للترويض”
ارتفعت قهقهات الجنود الصاخبة ولوحت الأيدي بالسيوف والحراب.
أيها الجنود الشجعان:
ستكون “تيماتيريا” عاصمة الأرض … عروسة هذا الغرب الشاسع… عروسة العالم .. سنفرش الطريق من بوابة “تيماتيريا” إلى “قرطاجة” بذهب هذا النهر الذي لا ينضب… !! يا جنود قرطاجة العظيم: هل تعرفون شكل هذا الذهب؟ ! سأكفيكم تعب البحث عن جواب لت تصلوا إليه ولو قضيتم الليالي الطوال…
ذهب مكون من ماء !! هل سمعتم عن ذهب الماء !! لا تتعجلوا !! أرهفوا السمع، وتأكدوا أن ذهب لا مثيل له شرقا أو غربا… لا بداية له ولا نهاية، لا عد له ولا حصر !! لا شبيه له !!
وقبل أن يكمل الأميرال كلامه اهتزت السفينة بعنف، وكأنها ارتطمت بجسم صلب، ساد الاضطراب الجنود وانكفأ بعض العبيد على مجاديفهم وتقافزا الحراس في أرجاء السفينة وبصرخة مدوية من الأميرال توقفت حركة الكل، بل توقفت حركة الأمواج أيضا !!
وماذا هناك؟ !
تقدم أحد الجنود وأدى التحية أمام الأميرال مرددا بصوت مرتعش:
يبدو سيدي الأميرال أن السفينة قد انغرست في الرمل !!
طرد “حانون” الجندي بحركة عنيفة من يده، وتسلق سلم السفينة بخطوات عريضة، ثم اتجه نحو اليمين، وانثنى يسارا متأملا صفحة الماء ببصره الحاد، وأخذت ابتسامة وليدة تطفو على وجه الأميرال بشكل متدرج وبصره يتابع خطا أفقيا شطر الماء شطرين: شطؤر رمادي اللول أقرب إلى لون الطين، والشطر الثاني بزرقة غلمقة تتخللها بقع زيتية ذات زرقة شفافة.
عاود الأميرال الابتسامة، وأخذ يخاطب نفسه بصوت غير مسموع “تماما …تماما .. كما قال مؤرخنا العظيم… هنا يوجد الذهب اللعين، ذهب الماءين !”
ارموا المراسي
صرخ الأميرال بصوت آمر وردد قائد السفينة الأمر الصادر بصرخة ممدودة:
ارموا المراسي…م…را….را…راسي…ي..ي…
وترددت في الفضاء النهري الأوامر المتتالية الصادرة من أجاء السفينة المتمايلة على الجانبين استعداد للرسو بهذا المكان الغريب !
انتشر الجنود الفنيقيون على ضفة النهر، وهم يدفعون العبيد أمامهم بعنف، دون أن ينزعوا عنهم قيودهم الحديدية، وأصدر قائدهم الأعلى أمره بجز شجيرات الدوم المدببة الرؤوس وسيقان القصب وعرائش الأقحوان الطويلة بلونيها الزاهيين: صفرة الشمس وبياض القمر ! وانطلقت الأصابع المدربة في فتل مئات الأمتار من شباك امتدت من الضفة اليمنى إلى الضفة اليسرى للنهر… وأخذت تغوص تدريجيا في عمق النهر، ولم يبقى منها إلا دوائر الفلين الطافية على سطح النهر الطيني كان الحماس طاغيا، ولم يصيع الجنود دقيقة واحدة وعيونهم لا تفارق دوائر الفلين المتهادية، غير أن المفاجأة التي كانت تنتظرهم لم تكن في الحسبان ! فبعد أيام وليال طويلة أخرج الجنود الشباك فكانت فارغة علقت بها بقايا أعشاب وطين أو سمكات صغيرة لا تسمن ولا تغني من جوع ! وقبل أن يفيق الجند من دهشتهم تعالى صوت “الأميرال” بالشتائم المقذعة، وظل سادرا في ذلك إلى أن خيم الصمت على الجميع، إذ ذاك أشار الأميرال إلى حاجبه الخاص يأمره باستدعاء المجلس الأعلى للوزراء والقادة العسكريين في هذه اللحظة .”… الآن … وبدون تأخير” كرر ذلك حانون بغضب وهو يتحسس قبضة سيفه بأصابع مرتعشة !!
أطبق الصمت على المقصورة الإمبراطورية، وتحلق حول الطاولة الضخمة المصنوعة من خشب لامع، كبار القادة والمستشارين، وتصدر الطاولة الأميرال بلباسه العسكري الكامل، وجلس على جانبه أقرب مساعديه، وفي الجهة المقابلة ل”الأميرال” جلس مؤرخ الإمبراطورية برأسع الصلعاء، وجبته الصوفية البيضاء الموشاة بخطوط أفقية زرقاء عند الصدر والقدمين أحنى الأميرال رأسه بإشارة خفيفة ففتح المؤرخ الوقور مجلدا ضخما، وبدأ في القراءة المتأنية بصوت هادئ، واضح النبرات: نهر “سبوس”أو “سبو” صالح للملاحة لكن سمك “الشابلوس” أو “الشابل” كما يطلق عليه سكان هذا السهل لا يظهر إلا في موسم معين يبدأ في صيده مع بداية فصل الشتاء، وينتهي مع بداية الربيع، وقد يبدأ في صيده مع بداية فصل الربيع في أماكن أخرى، فهو يمتلك دورته الخاصة التي تلائم دورة الطبيعة، فبمجرد أن تشيع حرارة الربيع الدافئة يتوقف عن صيده في هذه الأماكن، ليبدأ الصيد في أماكن أخرى، وهو لا يبيض إلا في الأنهار والوديان بعد رحلة طويلة عبر البحار والمحيطات. وأثناء صعوده الأنهار أو الوديان بهدف وضع بيضه يطارد من طرف الصيادين بدون هوادة.
توقف المؤرخ قريلا، وقرب قدح الماء الخزفي من فمه متناولا جرعة خفيفو.”يحكى أن القنصل الروماني وهو أعداؤنا الألداء .”أوزون” هو أول من شوى هذا السمك اللذيذ على النار.
ابتسم “الأميرال” عند سماعه الاسم الروماني، والتفت إلى قائد قواته، والابتسامة لا تفارق وجهه: ها ها …هاها… دائما الرومان… مساكين… لا يعرفون إلا الأكل والشرب تابع…تابع أيها المؤرخ الجليل…
“…وسمك “الشابلوس” أو “الشابل” كما يطلق عليه الأهالي، سمك نبيل يرفض أكل اللحوم الجيف، طعامه النبات المندى بالماء وبعض القشريات الخفيفة، وشرابه الماء … يعشق أبناءه لحد الجنون، فيقطع من أجله آلاف الأميال، والعديد من المحيطات والبحار ليصل إلى المياه العذبة… هناك يرضعهم مياهها الرائقة موطنه الأول هو عالم السعادة … سعيد من صادفه في طريقه … جالب للحظ والرخاء للإنسان… يحب الحرارة أو الدفء في أعماق الأنهار… حاسة الشم لديه لا تضاهى ….يرى حتى لو فقد عينيه معا، فهو فادر على الإحساس بأقل هزة تحدث في الماء…”
عجيب أمر هذا الحوت … خاصة هذه الأنثى الباذخة.
أجل سيدي “الأميرال” أجاب المؤرخ الوقور باحترام.
…. ولكن كما تعلم سيدي الأميرال فالحوت أو السمك عامة يصدر أصواتا خاصة يتواصل بها ولو كان متباعد الأماكن في الأنهار والبحار.
أردف المؤرخ كلامه بهذه الجمل السريعة
تابع، تابع، أيها المؤرخ الجليل، ماذا قالت هذه السمكة؟ !
“وسرعتي قد تصل إلى مائة كلم… قد توجد أسماك أخرى أسرع مني مثل السمك الشراعي الذي قد يتجاوز المائة كلم، ولكنني لست في عجلة من أمري…أنا لا أقع بسهولة في شباك الصيادين أو الراغبين في ذلك…”.
وارتفعت قهقهة الأميرال وهو يردد بصوت مرتفع:
– يا لها من سمكة ذكية !! تابع أيها المؤرخ الجليل، تابع…”
“سمكة واحدة تعادل برميل زيت… بسببي قامت حضارات وسقطت أخرى…”.
– هذا هو الذهب…هل فهمتم الآن؟ ! هذا هو الذهب !سمكة واحدة تعادل برميل زيت داء ودواء…احذروا جيدا”.
أوقف…الأميرال المؤرخ الوقور بحركة مؤدبة من رأسه، فتوقف المؤرخ عن الكلام. رمى الأميرال ببصره بعيدا من خلل زجاج المقصورة الأميرية، ووجه الكلام إلى أعضاء المجلس بحسم:
– الآن..عرفنا سر الشباك الفارغة. نحن الآن في بداية الخريف، ولم يبق على بداية موسم الشتاء إلا القليل…علينا أن نصنع المزيد من الشباك المتقنة التي قد تصل إلى مئات الأمتار في انتظار اللحظة الملائمة…ولن نترك سمكة واحدة في بطن هذا النهر الغائر…أريد شباكا متينة ولو تطلب الأمر فتلها من شعوركم !!…هيا…أريدها الآن…
وقبل انبلاج فجر اليوم الموالي، أنزلت الفلك على سطح النهر، واصطفت في نظام بديع، الواحدة تلو الأخرى، وانطلق الأسطول الصغير، كل فلوكة مكونة من ستة أفراد: اثنان للمجدافين، واثنان للشباك، واثنان مساعدان يتدخلان لفك الشباك عند التصاقها بالصخور أو الأعشاب المائية. وكان الصيادون يحملون معهم مؤونة يوم كامل مكونة من خبز الذرى الذهبي وفصوص الثوم والفلفل الحار وقربة ماء وبعض السمكات القليلة التي يجود بها النهر بين اللحظة والأخرى.
وبدأ الصيد بطرح الشباك مع انسحاب الماء خلال الساعات الأولى من الصباح الباكر، ثم تسحب، مساء، بعد أن يكون المد قويا، خاصة مع بداية الشهر القمري. ظل الأمر على هذه الحال أياما وليالي عديدة دون تعب أو هوادة. في البداية لم يكن الصيد وفيرا. واعتقد الجنود، مدة طويلة، أن صيد الأسماك هو استعداد لرحلة الذهب التي لم تبدأ بعد ! إلى أن جاء ذلك اليوم الذي وقعت فيه سمكة ضخمة تزن سبعة كيلوغرامات، وزيادة، في شباك أحد الصيادين. حملت السمكة الضخمة إلى حوض زجاجي، وتقدم به الصياد نحو المقصورة الإمبراطورية ووضعت على طاولة العمليات. لم تكن هذه السمكة تشبه الأسماك الشائعة. فأهل قرطاجة طاردوا الأسماك المفترسة مثل سمك القرش أو الأسماك الأخرى الضخمة !! هذه السمكة تشبه أسماك سليمان…ولكنها تختلف عن كل الأسماك التي رأوها من قبل…وتقدم المؤرخ الوقور، من الحوض الزجاجي، وأخذ يوجه الكلام إلى “الأميرال:
-“سيدي الأميرال..هذا السمك قادم من نهر النيل…منبعه، كما ذكرت من قبل، من أرض السعادة التي لا يعرف فيها الناس حقدا أو غضبا أو بكاء. وجوههم مبتسمة دائما…انظر، سيدي الأميرال إلى وجه هذه السمكة الودود…فأراضي السعادة لا تعرف إلا السعادة، نباتا أو حيوانا أو بستانا. أنثى هذا السمك، وهي التي أمامنا الآن، ذات نطاقين على الجانبين يحملان مآت الحبيبات الصغيرة التي لم تكن إلا مآت من البيض الذي يتفتح مع تفتح أزهار الربيع الأولى. بطنها فضي اللون…أخذته من لون القمر. ذيلها نحاسي…أخذته من لون الشمس، لون الصحة والعافية. ظهرها أزرق فاتح أخذته من سماء هذه البقاع الصافية، وقد يتخلله أحيانا اللون الأخضر، لون هذه السهول الخصبة. وأحسن أنواع هذا السمك ما كان مستقرا في قعر المياه الضحلة ملتصقا بالطين إلى الحد الذي تعجز فيه المراكب والشباك عن صيده بعد أن يكون متحصنا بالأحجار والأعشاب”.
أوقف الأميرال المؤرخ الوقور بهزة سريعة من رأسه، وخاطب المتحلقين حول الحوض الزجاجي:
– هذا هو الذهب. هل عرفتم الآن الذهب الحقيقي؟ !
خيم صمت عميق على الرؤوس، وتوقفت القلوب عن الخفقان.
– نعم هذا هو الذهب الحقيقي…والوقت ملائم الآن لملء كل مراكبنا بهذه الثروة الهائلة.
هتف الجنود بحياة الأميرال، فسارع إلى إسكاتها بحركة عنيفة من قبضته اليمنى المضمومة بعنف.
– صبرا…لازلتم لحد الآن لم تفهموا سر هذه الرحلة…انتبهوا جيدا…هناك طرق ثلاث يتصارع حولها أمم هذا الزمان…
– وما هي هذه الطرق سيدي الأميرال؟
سأل المساعد الأيمن للأميرال بهجة مندهشة؟ !
هي طرق املح والتوابل والحرير…طرق القارتين العظيمتين: إفريقيا وآسيا.
– وها هو الطريق الثالث، أمامكم طريق “الشابلوس” أو “الشابل”. الذهب أمامكم والذهب وراءكم نطق بها المؤرخ الوقور، وهو يشير إلى الحوض الزجاجي الذي سبحت فيه السمكة الذهبية.
– طريق الذهب الجديد..هل تعرفون بأن زيت هذا السمك لا يشبه باقي أنواع الزيوت؟
ولما تيقن..الأميرال من اشتداد فضول جنوده، ومساعديه، تبع قائلا:
– زيته دواء لأمراض عديدة. نقطة واحدة منه تكفي لإضاءة أكبر شوارعنا…نقطة واحدة تمنع الصدأ عن مدافعنا..نقطة واحدة شفاء من أمراض وأوبئة عديدة !! سمكة واحدة تعادل برميل زيت…نقطة واحدة فقط…لن أكمل..تذكروا ما قلته سابقا:
– عاش الأميرال، عش النهر، عاش الشابلوس
– لنطلق عليه ما أطلقه عليه أهل هذا النهر المنجم.
صرخ الأميرال في جنوده بصوت مرعب.
عاش “الشابل”، عاش “الشابل” الذهبي…
أجابه الجنود بصرخات حماسية اهتزت لها أركان السفينة.
– وأمامكم، لحمه اللذيذ بعد أن تمتلئ البراميل بالزيت. لا تتركوا سمكة واحدة بهذا النهر.
تحلب ريق الجنود وهم لا يملون من الهتاف الذي عم الفضاء النهري الشاسع. كان فصل الشتاء ما زال في بدايته. وانتشرت على ضفة النهر اليمنى خيام الجنود والصيادين، وأمامها النيران الموقدة التي أشاعت الدفء في هذا الجو الصعيقي بضبابه الكثيف.
وبمجرد أن أطل الهلال، في بداية الشهر القمري، أنزلت مآت القوارب، التي جرت وراءها عشرات الأمتار من الشباك المثقلة بقطع الأحجار والرصاص، والمرصعة حواشيها بدوائر الفلين المنتزعة من أشجار “البلوط” المنتشرة بهذه الغابة التي تحمل اسم المعمورة. وطول أربعة أشهر كاملة، لم تتوقف حركة القوارب عن الصيد. أكوام من السمك تحمل من القوارب إلى السفينة الإمبراطورية، فتتلقفها مآت الأيدي التي تبقر البطون وتفرغها من أحشائها وتقذف بها نحو الماء. أما أحزمة البيض فإنها ترصف على أرضية الباخرة، بجانب الآلاف، بل الملايين من الأسماك المرصوصة بعناية مثل طبقات بناء متسامق، إلى أن قاربت الأشرعة الرباعية بل تجاوزتها إلى الصواري، وأحاطت بكل مداخل السفينة ومخارجها، وطوقت المقصورة الإمبراطورية حتى لم يبق أي موطيء لقدم !! ولم يشعر الجنود أو الصيادون بانصرام الزمن غلا بعد أن أصبحت الشباك تطلع كل يوم فارغة إلا بقايا أعشاب مائية، أو سمكات صغيرة انتزعت من الأحضان الدافئة. إذ ذاك ارتفع صوت النفير معلنا انتهاء موسم صيد “الشابلوس” أو “الشابل”. وبمجرد أن بلغ صوت النفير آذان الجنود والصيادين، ارتموا على ظهر السفينة بدون حراك مثل الجثث !! فطوال أربعة أشهر لم يذوقوا طعما للنوم. ولو وقع هجوم مباغت من قبل أعدائهم الرومان لما حركوا ساكنا…أشهر أربعة مرت مثل لمح البصر، وبدأت تباشر الدفء تغزو المكان الذي تراجعت منه لسعات ابرد، وذرات الضباب…وبسبب لتعب الشديد الذي عانى منه الجنود والصيادون ظل هؤلاء يغطون بملابسهم الشتوية الثقيلة، في نوم عميق !!! الكائن الوحيد الذي أحس بحرارة بداية الربيع هو “الشابلوس” أو “الشابل”، الذي غطى سطح السفينة العريض. وفي هذه الأثناء بدأ يسيل بعرق بطيء..كان العرق زيتا غريبا، ثقيلا ذا رائحة نفاذة خانقة…رائحة تلتصق بالأنوف والملابس وكل ركن أو زاوية من السفينة الإمبراطورية وكأنها ألصقت بلصاق غير مرئي…وظل الزيت القادم من كل أرجاء السفينة مستمرا في تقدمه البطيء نحو مداخل الأبواب، وثقوب الأقفال، وشقوف المخازن وتلافيف الألبسة…ملتفا حول الأجساد المتعبة التي لا تحرك ساكنا…كان الزيت يسيل نهارا، ويتجمد ليلا متحولا إلى دهن ثقيل، أشبه بطبقات الرصاص التي عجزت عن دفعه الأفواه والأنوف المشمعة، وأخير الأيدي المشلولة التي تجمدت بجانب الأعضاء الأخرى بأماكنها وكأنها التصقت بالغراء فبدت الأجساد مثل “المومياءات” أو التوابيت القديمة. ذابت كل الروائح وسادت رائحة واحدة…رائحة زيت الشبل القوية. حتى الأميرال، وهو غائص في نوم عميق، أحس بهذه الرائحة النفاذة التي عمت مقصورته الإمبراطورية !!! ولمح من خلال زجاج النافذة رأس سمكة شبيهة بسمكة الحوض الزجاجي !! وتعجب لذلك وتساءل: كيف صعدت السمكة إلى ظهر السفينة من حوضها الزجاجي؟ ! وقبل أن يجيب عن ذلك، كان المركب الإمبراطوري يغوص بالتدريج في أعماق النهر، كما كشفت عنه النافذة الزجاجية. كهوف من صخور ملساء، وأخرى ذات ثقوب غطتها طحالب خضراء ضمت عشرات الأسماك السمينة والثقيلة في آن واحد، ومد الأميرال عنقه باحثا، بصبر نافذ، عن السمكة التي أطلت عليه قبل قليل… ولكن دون جدوى !! وظل بصره يتابع أسراب السمك المتدافع في كل الجهات، إلى أن رأى سمكة ضخمة أقرب إلى سمكة الحوض السوداء… لعلها هي !! لا لم تكن سوداء، بل كانت ملتصقة بطين أقرب إلى الأزرق المشوب بخضرة المراعي، أزرق أقرب إلى السواد…عينان مبتسمتان، زعانف أنيقة، ذيل نحاسي…هي دون غيرها !! صرخ بقائد السفينة خوفا من اصطدامه بالصخر المسن أثناء المطاردة..صرخ مرة ثانية دون أن يجيبه قائد السفينة الذي كان يغط في نوم عميق !!! وظل الأميرال يصرخ محاذرا من الصدام…أما المركب، فإنه كان منجذبا نحو الصخر وكأن قوة خارقة تدفعه في هذا الاتجاه بالرغم عنه !! وظلت رائحة الزيت أو رائحة الشابل ممسكة بتلابيب المكان !!! وتحرك بعض الجنود، بعد أن بلغهم صراخ الأميرال في كل الاتجاهات، لكنهم عجزوا عن الحركة بعد أن ظلوا ملتصقين بشمع ثقيل..وكانت أطرافهم متخشبة بدون حراك وكأنها مخيطة بخيوط كبيرة، والصرخات المكتومة لركابها لا تغادر صدور أصحابها، وحاول الأميرال النظر من زجاج المقصورة، فلم يتمكن من ذلك بسبب ضباب كثيف منعه ن الرؤية، ولما حاول مسح أحد المربعات الزجاجية، اصطدم رأسه بسقف المقصورة بعد أن ارتطمت السفينة بالصخور المسننة، واستقرت في القعر، وكأنها جثة ديناصور أو جبل عائم لم يبد منه غلا القمة أو راس صارية مكسورة !!
وكما حدث ل “بومبي” الإيطالية التي تجمد فيها كل سكان المدينة في ذلك الصباح الباكر بعد الهجوم الكاسح للسيول البركانية، حدث ايضا لركاب السفينة لإمبراطورية. لاشك أنكم سمعتم عن هذه المدينة الإيطالية المنكوبة. كل السكان لم يتجاوزوا الحركة الأولى من أفعالهم اليومية: مرضعة كانت تستعد لإرضاع وليدها..رب إحدى الأسر يبدأ في مغادرة فراشه، فلاح يرفع سوطه إلى أعلى…بقرة تتشمم التراب..وإذا تمكنتم، في يوم ما، من زيارة هذا المكان، فستجدون من يحدثكم عن أعماق هذا النهر الزاخر بأضلاع البراميل وبقايا قطع نقدية قرطاجية، أو خزف، أو أعضاء ثماتيل قرطاجة القديمة…المهم، أين وقفنا في حكايتنا السابقة؟ ! آه…كنا قد وقفنا عند الأميرال الذي اصطدم رأسه بجسم صلب..لعله سقف المقصورة الأميرية. لا لم يكن الأمر كذلك !!! بل حاول الأميرال الإمساك بالسمكة الضخمة التي انزلقت من بين أصابعه…فطاردها مطاردة متواصلة إلى أن اصطدم رأسه، من جديد، بجسم صلب…هل كان سقف المقصورة أم مقدمة السفينة؟ أم لعلها مقدمة السرير الذي كان على شكل سمكة ضخمة قريبة الشبه من “الشابلوس” أو “الشابل”…وبعد أن تحسس رأسه المصاب، عاد إلى الإمساك بكلتا يديه بمقدمة السرير، وأخذ يهز الفراش بعنف،صارخا في قائد السفينة، أحيانا، ومحرضا الجنود على مطاردة السمكة أحيانا أخرى…كان صوته قد تردد صداه في أرجاء السفينة دون أن يبقى حبيس المقصورة الأميرية…وظل يصرخ بأعلى صوته إلى أن دخل أحد حراس الأميرال وأخذ يهزه برفق: “سيدي الأميرال، سيدي الأميرال”. نهض الأميرال من نومه مذعورا، وتحسس رأسه بيده اليمنى، أما اليد اليسرى فقد كانت تمسك بعنف قطعة من خشب السرير الذي كان أشبه برأس سمكة !! سمكة تشبه “الشابلوس” أو “الشابل”…وخيل إليه، وهو يجاهد في أعماق النهر، أن السمكة أثناء مرورها الهارب كانت تبتسم بابتسامة ساخرة أو هي ابتسامة أقرب إلى الرثاء أو لعلها مزيج من السخرية والرثاء. هذا ما خيل إليه، قبل أن يستقر في قعر النهر، بعد أن جرف سيل الزيوت كل ما كان موجودا آنذاك بالسفينة…تماما كما حدث بـ “بومبي”.
لو زرتم، يوما، المهدية، حاليا، تيماتريا قديما، أيام “حانون” القرطاجي، عند ملتقى النهر والبحر ستجدون آثارا غريبة يقذف بها البحر أثناء الجزر !! اقتربوا منها وأمعنوا النظر، فستجدون صخورا مفتتة…بعضها مثل أصابع مبتورة، وأخرى اقرب إلى رؤوس الأسماك أو ذيولها الشبيهة بذيول الشابل أو الشابلوس الذي اصح مجرد ذكرى لا تمل من ترديدها أمواج النهر أو البحر…ولم يبق منه إلا الرائحة ! رائحة نفاذة تعم البرّ والبحر.
د. عبدالرحيم مؤذن