الرحلة جنسا أدبيا:
من أهم- كما سبقت الإشارة- عناصر التجنيس في النص الرحلي، استناده إلى مكون السفر من حيث كونه بنية فاعلة في النص الرحلى على الشكل التالي:
أ- مركزية هذه البنية التي تجعل منها بنية رئيسية، وليست عارضة، تتحكم في النص الرحلي، من البداية إلى النهاية.
ب- فالبداية والنهاية حالاتان شعوريتان مختلفتان. فسفر الذهاب ليس هو سفر الإياب. في الذهاب تتلبس الرحالة لحظات الخوف والغربة والدهشة والغربة والحنين والتحدي والمغامرة والتساؤل.. وفي العودة تطفو حالات التأمل والمراجعة والتأويل والاستنباط والهدوء الحذر، والتصالح مع الذات، والآخر.. فنهاية الرحلة- على حد تعبير “كويهلو”- هي نهاية( اشتباك المرء مع العالم).
ب-الذهاب والإياب معادلان موضوعيان للحظتين متعارضتين: فالأولى تخص ماقبل الارتحال نرمز لها بفعل: كان . واللحظة الثانية تخص مابعد الارتحال نرمز لها بفعل : أصبح.
فالانتقال من الذهاب إلى الإياب هو انتقال من وضع فكري إلى وضع مغاير، ومن زمن إلى زمن آخر. يقول ” تودوروف”(في الذهاب، يكون الرحالة في وضعية المستوعب- بالكسر- وفي العودة يصبح في وضعية المستوعب، بالفتح. في الحالة الأولى يمارس الرحالة سلوك السائح/ الإنطباعي. وفي الحالة الثانية، يذهب إلى الآخرين لا لكي يصبحوا مماثلين له، بل لكي يصبح هو مثيلا لهم لباسا ولغة وأنماط عيش وغيرها..)5
ج- الذهاب والإياب يتحكمان في طبيعة الارتحال، أو هويته، التي تتحكم في عملية التجنيس ذاتها. فالذهاب، دون عودة، يحول النص إلى كتابة منفى. فالمرتحل تحول إلى منفي أو مهاجربعد أن رفض العودة، أي رفض” إيثاكا” التي حرص” أوليس” على التأكد من وجودها، من خلال وشم الذاكرة التي ترسخت بين تلافيفها صورتها المرجعية مجسدة في ( شجرتي زيتون اللتين كانتا تحرسان الميناء الصغير). هكذا تصبح – كما أصبح متداولا في أدبيات عديدة- ” إيثاكا” مرادفة للوطن. أما بالنسبة للمنفي، فهولم يعد محتاجا إلى”إيثاكا” التي فقدت وجودها، المادي والدلالي، بعد أن انقطع الحبل السري بين الطرفين. ولو حاول البحث عنها، بطريقة أو بأخرى، فلن يجدها البتة، أو قد يجد ها سرابا مدغدغا يوهمه بوجودها، علما – كما قيل قديما- أن الدار ليست هي الدار، والوجه غطته طبقات من الرمل، أوالضباب، فأصبح المكان مبعثا للرعب والوحشة والخوف. هكذا يختلف النص الرحلي عن نصوص المنافي، وأدب الهجرة والتهجير، فضلا عن نصوص أخرى تساير السياق ذاته، مثل نصوص عديدة خضع فيها أصحابها للإقتلاع، أو الطرد والاجتثات. .
د- والعودة، مرة اخرى، قد تكون بالجسد والوجدان، وقد تكون بالكتابة التي تسمح- لسبب أو لآخر- للرحالة باسترجاع المكان بمختلف محمولاته المادية والدلالية. ف( الرحلة الأخيرة) ل”هشام شرابي” تنطلق من الهجرة القهرية لتصب في الرحلة بعد أن استرجع السارد وضعية الرحالة، من خلال استرجاعه للمكان ( فلسطين) قولا- حكاية اغتصاب المحتل للوطن- وفعلا ( المقاومة المسلحة التي عبرت الحدود ذهابا وإيابا في لحظات محددة. )6. والسارد- الرحالة لايمل من الذهاب والإياب بين الداخل والخارج، بين المنفى والوطن، بين الهجرة القهرية والرحلة الإرادية التي تقتضي الذهاب ولإياب بكل السبل والأشكال.
ه- يسمح السفر بتصنيف المتن الرحلي، شكلا وأنماطا ونصوصا متميزة. ويصبح “كرونوتوب الطريق”- على حدتعبير “باختين”-أداة7 للتمييز بين مستويات المتن الرحلي. فرحلة النبي”ص” –وهما في الجوهر رحلتان تتميز كل واحدة منهما بخصائصها المفردة-إلى المسجد الأقصى، إسراء، بحكم ارتباطه بالليل. فالرحلة المنجزة رحلة ليلية، ورحلته ص إلى السماء(معراج) مبني على الارتقاء، عبر السماوات في رحاب الملكوت. ورحلة الصوفي سعي أو مجاهدة وكشف وانكشاف. والرحلة البحرية تحتلف عن الرحلةالاستكشافية..
و- يتحكم السفر- كما سبقت الإشارة- في خصائص الكتابة الرحلية مفرزا الثنائيات التالية:
&- سرد العين( المحكي الذاتي) وسرد الأذن( محكي الآخر)
& السارد( الرحالة)والمسرود له( داخل النص )وخارجه( أفق انتظار النص)، فضلا عن الشواهد السردية للأ حياء والأموات، جسدا أو نصا.
-سرد الداخل( الاسترجاع) وسرد الخارج(سرد الوقائع)
الحكاية المضمنة- بالكسر-( الرحلة من البداية إلى النهاية) والحكاية المضمنة- بالفتح- (المرويات والمحكيات المشتركة بين الرحالة وبين المرتحل إليهم).
سرد الذهاب وسرد الإياب.
البلاغ( توليف الأساليب المتعددة داخل النص) والإبلاغ( الانتصار للمعرفة مرسلا ومتلقيا)
اللغة الأدبية واللغة” الوظيفية” المتداولة.
السرد ( الكتابة) والصورة( الرسم/ الخريطة/ اللوحة).
الوصف السردي والسرد الوصفي ( الصورة السردية).
-الوصف المباشر والوصف المقارن( الأنا والآخر).
-المكان( المرجع الواقعي) والفضاء( المكان الدلالي : أرض الكفر وأرض الاسلام)_ “باريس جنة النساء وجهنم الخيل”8
ولما كان السفربنية لاحمة للأفكار والصور والمعارف والمرويات المختلفة، عبر تجربة ذاتية محددة، فإن الجانب الجمالي، في الرحلة، يقوم على:
1-المزج بين الخاص والعام. ف(الإفراط في الخصوصية ينزع عنها مصداقيتها الوثائقية، والإفراط في التعميم يجعلها مبتذلة…وسرد رحلي يتمحور حول الكاتب يصبح بمثابة مذكرات خاصة- والرحلة لا تكتفي بذلك، بل إنها مذكرات وسير للآخرين في الوقت ذاته. كما أن العرض الموضوعي، البعيد عن الذاتية، للمعطيات المشتركة يؤدي إلى الملل، فتصبح الرحلة مثل مقال في معجم، او أفظع من ذلك، مثل كتب الإشهار).
2-لعبة الرحلة الابداعية تكمن في مد الجسور بين المألوف وغير المألوف. ومن ثم فجماليتها تتجسد في تنظيم لما هو موجود قبل أن تتجسد في الخلق من عدم9 فخطاب الحقيقة الذي تستند إليه الرحلة، يمر عبر قناة السارد الذي يقدمه حسب منظوره الخاص، مستندا إلى رصيده المعرفي، من جهة، وأحاسيسه الذاتية، من جهة ثانية. فالحمار الوحشي، في العديد من الرحلات المغربية التي اتجهت إلى أوروبا- أثناء القرن 19- حيوان ” بين البغل والحمار”10، والأهرامات عند ‘ابن بطوطة'(بناء بالحجر الصلد المنحوت متناهي السمو، مستدير).
وبسبب ذلك نظر إلي الرحلة، كنص مرجعي ( صفحات أوتوبيوغرافية/مذكرات) يعيد إنتاج واقع متداول، علما أن الرحلة تندرج في سياق المحكي الذاتي الذي يتميز ب:
ا- سارد ثلاثي الأبعاد: مؤلف من لحم ودم/ متكلم، أو سارد من ورق/ شخصية فاعلة في الحدث ومنفعلة به في آن واحد. الوضع الثلاثي يسمح بتفاعل الواقعي بالمتخيل، المرجعي، بالخيالي، الملموس بالمحتمل.
ب- تسمح الرحلة بتداخل الأصوات بالرغم من سيطرة صوت السارد الرحالة المتكلم( مفردا أو جمعا). ومن ثم يفسح المجال للأصوات الأخرى الحاملة لعوالم مختلفة، وصور عديدة تتوازى، أو تتقاطع، مع السارد.
ج- النص الرحلي نص مهجن، بالمفهوم الباختيني،11 الذي يتنافى ونقاء النصوص، بحكم خضوعها للحوار الدائم، عبر مراحل تاريخية مختلفة. والتهجين‘ في الرحلة، ينسحب على الموضوعات والأساليب والرؤيات والرواة والمحكيات والمصادر المختلفة والمعارف المتعددة.. كل ذلك تحت هيمنة بنية السفر المنظمة- كما سبقت الإشارة- لمسار الرحلة المادي، من جهة، ولمسار الكتابة، من جهة ثا نية.
د- أدبية الرحلة، إذن، لاتعني، من بين ماتعنيه، الصيغ البلاغية- وهي واردة في الرحلة بطريقة أو بأخرى- والأساليب البيانية، وهي واردة أيضا بطريقة أو بأخرى- بل تعني من بين ما تعنيه إمكانات الرحلة في توليف خطاباتها المتعددة في خضم تجربة المغامرة التي يخوضها المرتحل في عالم محدد. الرحلة طبقات من النصوص والأساليب المعارف والمواقف. وهي، في كل ذلك تستوحي الأداة الملائمة، متأرجحة بين اللغة الوظيفية واللغة الأدبية، بين اللغة السائدة والنحت الجديد لمعجم جديد يعيد صياغة عناصر المكان بمفردات ملائمة للذائقة والوجدان، بين البوح الوجداني والتقرير العلمي، بين الخبرو الحكاية، بين الشعر والنثر، بين التعليق والاستطراد، بين الشفهي والمكتوب، بين المألوف والغريب،
هكذا يتحول السرد الرحلي- في مرحلة تاريخية محددة_ إلى نص ثقافي ( متعدد الأنظمة منتجا تعدد الأشكال الأدبية التالية:رحلة خيالية أوواقعية” حقيقية”، متخيلة، … ثقافية…وكل سرد يحمل سماته الخاصة،، لكنه يشترك في المكونات ذاتها، نظرا لأن “أدب الرحلة” من (لأجناس النمطية)12/هكذا يحافظ النص الرحلي- وهو جذر كل الأجناس- على حيويته الدائمة، بحكم بنيته المرنة التي سمحت بتطويع تفاعلاته مع مختلف الخطابات والنصوص والأنواع سواء كانت
أدبية أو غير أدبية- مؤثرا ومتأثرا، قي الوقت ذاته، بعناصر جديدة، ومتجددة‘ أثرت الخطاب الرحلي الذي أثرى، بدوره في الخطابات المتوازية، والمتقاطعة معه، في آن واحد.
1-jean-didier urbain : secrets de voyage . menteurs ; imposteurs ;et autres voyageurs
2-invisibles. ed. payot&rivages. 2003. pp. 68-ibid
هذا المقال يحتوي على: 443 كلمة.
الشكل القصصي في القصة المغربية 1