بقدر ما كانت الرحلة ميداناً فسيحاً للمغامرة الأنطولوجية، كانت أيضاً ميداناً خصباً لمغامرة الكتابة التي ترسخ شكلها عبر تراكمات النص، من دون أن يمنع ذلك من تنوع وسائل الإبلاغ داخل تقاليد الكتابة المشتركة، في الرحلة على اختلاف طريقها، سواء أكان سفارياً أن حجازياً، سياحياً أم مزارياً، علمياً أم فهرسياً، حركة أم دليلاً.
هذه الدراسة لا تهدف إلى الحديث عن محتويات ومضامين الرحلة المغربية أثناء القرن التاسع عشرـ بل إلى محاورة الجانب البنائي للرحلة قبل الحديث عن المحتوى، ما دامت الرحلة نصاً حربائياً بالمعنى الإيجابي، يأخذ لون كل فضاء، سواء أكان مادياً أم مجازياً، يمر به الرحالة. في المغامرة الجريئة لهذه الدراسة قد تكون الرحلة حجازية الموضوع، ولكنها متعددة طرائق الكتابة، بحكم انتقالات الرحالة بين الفضاء الأليف والفضاء الغريب، بين لغة المناسك ولغة المعجم الجديد غير المألوف، بين صورة العروض والأطوال والصورة الواقعية.. صورة المرئيات المرتبطة بالنشر اليومي المنحط على حد تعبير لوكاش.
وبالعودة لمتن هذه الدراسة، نجد أنها قد خضعت للتبويب التالي الباب الأول ضم ثلاثة فصول طرح أولها إشكالية التجنيس محاولاً الوصول إلى تميز هذا الجنس، شكلاً ومضموناً، عن باقي الأجناس الأخرى، مستبعداً أن يكون نص الرحلة نصاً غائباً أو مغيباً من جهة، أو نصاً مساعدا مهمشاً لنص مركزي آخر من جهة ثانية.
وعالج الفصل الثاني متناً هاماً من متون السفر المغربي في القرن الـ19 ذلك هو متن الحركة الذي -حسب اعتقادي- تأرجح بين الرحلة والدليل، وإن غلب عليه النعت الأخير. أما بالنسبة للفصل الثالث، فالهدف منه هو تقديم العلاقة بين البر والبحر واقعياً ودلالياً.
يأتي الباب الثاني وعنوانه “البنية السردية” ليطرح مكونات السرد الثلاثة عبر الفصول الثلاثية المكونة لجسد هذا الباب. في الفصل الأول تم طرح قضية السرد مركزاً على العلاقة بين الصورة -بلاغة ورسماً- والكتابة. أما بالنسبة للفصل الثاني، فقد تطرق للسارد سواء كان مؤلفاً (كاتباً) أو شخصية مركزية، أو سارداً (متكلماً). وفي الفصل الثالث نجد “المسرود له” الذي قد يأخذ صفة المسرود له، ذي الطبيعة التاريخية الذي يعيد إنتاج “المضارع التاريخي” منذ الحروب الصليبية ومعاناة الحجاج المستمرة مع “الكونطينة” من جهة، أو مع تحولات الحداثة القاهرة من جهة أخرى.
ويأتي الباب الثالث ليقدم الفصول الثلاثة التالية: الفصل الأول المتعلق باشتغال الوصف الذي استند، في جوهره، إلى آلية البصر والبصيرة، سواء بالنسبة للرحالة، أو بالنسبة للمرتحل إليهم، بمرجعياتهم المختلفة. وارتكزت هذه الآلية على رسم لقيم مستوحى من معجم الفضائل المتوزعة بين المدح والذم، بين الكائن الحي والكائن غير الحي. وينتهي هذا الفصل، أخيراً بتقديم أنواع الوصف من مباشر وأدبي، فضلا عن وظائفه الإخبارية والتعليمية والتوثيقية.
أما بالنسبة للفصل الثاني، فقد حاول تقديم مستوى من مستويات حوار الرحلة مع النصوص الموازية لها، أو المتقاطعة معها في الزمان والمكان، مفضلاً استخدام مصطلح المعارضة -دون إلغاء دلالته التناصية- بأهدافها العديدة في الإضافة والتعليق والحاشية والمقارنة والسخرية والرفض والسند، وأخيراً، وليس آخراً، في استنبات محطات حكائية متعددة في جسد الرحلة.
وقد حاول هذا الفصل، عبر جداول محددة، إبراز لحظات التفاعل بين النص المركزي ونصوص الرحلة المغربية في هذه الفترة سواء عن طريق اليوميات أو المذكرات، أو عن طريق التقرير في سياق الموضوعات (الثيمات) المشتركة أو غير المشتركة صيغاً ومعجماً.
أما بالنسبة للفصل الأخير، فقد عنون بـ: المكان والفضاء ذلك أن الرحلة المغربية، أثناء القرن الـ19 تأرجحت بين المكان والفضاء. فهي رحلة في المكان عند خضوعها للجانب التوثيقي، أو للهاجس المعرفي والحدود الخرائطية، معيدة إنتاج أسلافها في أدب المسالك والممالك وعلم الأطوال والعروض.
ولما كان الهدف المركزي من هذا البحث المتواضع، هو إعادة الاعتبار لهذا الجنس الأدبي، فإن ذلك قد دفع الباحث إلى التركيز على النص قبل غيره، محاولاً الاستناد إلى التحليل النصي المطعم بمفاهيم معينة من السرديات المعاصرة، عوض السقوط في إقحام المفاهيم على النص، الذي قد لا يأتمر إلا بالأوامر الصادرة عن قوانينه الذاتية، ومن ثم، فالمفاهيم المنهجية في التحليل، يجب أن تستنبط من المتن ذاته.
والتركيز على التحليل النصي، سمح باستكمال طريق البحث الذي بدأه الباحثون المغاربة، في هذا السياق، عند معالجتهم لمتن الرحلة، خاصة أنه قد حاول الاستفادة من المخطوط، فضلاً عن المطبوع، بهدف إضاءة بعض خصوصيات الكتابة
تاريخ النشر: 01/01/2006
الناشر: الأهلية للنشر والتوزيع
النوع: ورقي غلاف عادي
توفر الكتاب: نافـد