حجم الخط
د عبد الرحيم مؤدن
كلمة لابد منها :
جاء “مبارك الدريبي من عالم الشفاهة قبل أن يجيء من عالم الكتابة. وبذلك فتجربة -كما سيتضح من خلال التحليل- “مبارك الدريبي” هي تجربة الحاكي الذي يكتب قبل أن يكون الكاتب الذي يحكي والفرق بينهما شاسع ما دام الحكي الشفهي هو نسغ الكتابة من خلال سارد معين رسخ من جديد تقاليد المحكي الشفهي عبر صيغ الحكي المكتوبة التي جاء لاحقة – مرجعية ومكونات نفسية ووجدانية و موقفا فكريا وأيديولوجيا – قبل أن تكون سابقة ما مصادر الشفاهة عند “مبارك الدريبي”
(1) إنها مصادر البيئة الغنية برصيد المحكي الشفهي والفقيرة إلى حد العدم، في المعاناة اليومية لتحصيل الحد الأدنى من وسائل العيش لا غنى للباحث أو المحلل بالرغم من الضرورة المنهجية الملزمة بالخضوع للنص – عن الخارج الخارج النصي – لمعرفة الداخل الداخل النصي.
(2) و انتماء السارد- مؤلفا أو حاكيا- إلى هذا الرصيد الغني من الشفاهة و المتضائل، يوما بعد يوم، هو احتفال بهذه السلالة من الرواة الشعبيين المنقرضين لسبب أو الآخر، والذين لم يبق منهم إلا الوشم و منه وشم النص، وآخر ملامحه ساردنا المنتمي إلى هذه السلالة وقد لا أكون مبالغا من جهة، وفي الكتابة من جهة ثانية.
(3) و بسبب هذه المرجعية مرة أخرى لم يكن المحكي الشفهي موضوعا من موضوعات الكتابة، بل على الكتابة ذاتها. ذلك أن المحكي الدارجي وهو محور الندوة الحالية قد نجده، بشكل أو باخر في السرد المغربي الحديث، غير أن الفارق بين سرد القاصين (الكتاب) المغاربة، و سرد “مبارك الدريبي هو السرد بالمحكي عوض السرد من المحكي. فالسرد بالمحكي- يجعل منه أداة بنائية تتكامل مع القضايا و المضامين الخاضعة لهذا المنظور البنائي. أما السرد من المحكي فيجعل من هذا الأخير موضوعا من بين الموضوعات المطروحة. و”مبارك الدريبي كان يفكر بالمحكي ولا يفكر في المحكي.
في سياق هذه المداخلة، سأحاول متابعة تجليات المحكي الدارجي الشفهي عامة في مجموعة “الغربان” ل “مبارك الدريبي مركزا على النص الأخير الحامل للعنوان ذاته، وأول مظهر من مظاهر التجلي الشفهي مظهر الشخصية من خلال
I– الشخصية اسم العلم المعتق في تجذره التاريخي و الدلالي، أو في وظيفته التي منحته موقعا جديدا لم يتنكر لهذا التجذر أو العتاقة.
و الأمثلة التالية توضح هذه المستويات دون الدخول في التفاصيل: الدغوغية /جمعية/ خلافة/ روبالة/ حادة /فطين/ عليوات /المروكي /مهماد (محماد)/ بارودي /مينة الطنجوية/ رقية /علي ولد طامو/ اللعابة/ بوسلهام/ كرائط/ الغزواني/ سيدي حيا.
وكل اسم من هذه الأسماء يخفي حكاية ربطته بمكونات اسم العلم من حيث البنية اللغوية مرة، ومن حيث المرجعية الواقعية مرة ثانية، ومن حيث الوظيفة مرة ثالثة.
ب- من خلال الصفة على اختلاف مستوياتها واللقب والكنية..الخ. و كلها مستويات دلالية. وعلى سبيل المثال أذكر: الموكي / روبالة / عبوش الكار/ عمارة النشاط/ المراة الصاروخ/ الحلوفة /قرمان/ موكا/ نقروش/ هومار/ بور كابي/ مسخوط/ موحى الشلح / المغمض/ الفقيه الأعوز/ راس الحلوف/ خر دامي/ دودة التبغ / ابنة الخانزة/ عيون الصفاء دواب الغباوة / سيدة البحر/ قطار الغباوة/ ابنة الخوذة/ المحضرة ..الخ
هذه الصفات قد تكون أحيانا استعارات أو كنايات أو قد تكون أحيانا أخرى صفات مباشرة ذات وظيفية محددة أحيانا صفات – كما يقول النحويون (غبوش الكار) أقرب إلى الصفات المصدر، وأحيانا أخرى قد تصبح الصفات مرتبطة بموقف معين (مهماد) تحريف “محماد” النادل الذي كان يشتغل عند الفرنسيين فنطقوا اسمه بهذه الطريقة المتداولة بين الزبناء و هذه الصفات مرة أخرى تسمح من خلال الإلحاح عليها في مواقع عديدة من النص، بتركيب صور الذاكرة المشكلة من الخيال والواقع لاسترجاع ذاكرة جماعية تداولت هذه الأسماء والصفات وأعادت إنتاجها و هذا من رصيد الشفهي بصيغ عديدة ومواقف مختلفة إلى أن ضاهت هذه الصفات الأمثال المتوارثة والحكم المتداولة.
II– اسم المكان: في مجموعة “الغربان و مختلف النصوص القصصية التي أصدرها مبارك الدريبي نجد هذا الاهتمام بالمكان من خلال “طوبوغرافية” ترصد ما كان و تتابع ما هو كائن حدان متوازيان للأمكنة في هذه النصوص وكان المكان القديم يطارد المكان الجديد، والمكان السابق يأخذ بتلابيب المكان الحديث
و من أهم سمات هذا المكان أيضا توزعه بين المكان الخاص والمكان العام والسارد يوجد في المكانين معا، غير أن الأمكنة الحميمية تأخذ اهتماما اكبر، ولو وصلت إلى أحط درجات البؤس أو الحاجة. ف كتاب” سيدي رحال” يتكرر في مواقع عديدة من المجموعة من مواقع مختلفة، فهو يرتبط بإحساس خاص عند حضور رفيقته في الكتاب التي كانت جميلة وضعيفة العود، ذات نظرات حالمة كالعرائس المجموعة ص (120) و الفقيه سيدي رحال لا يختلف سوطه عن سوط الأب و العالم المحيط به أسواط في أسواط. ” كان السوط يأكل مني، وكان أبي تأكل منه الشوارع و الشمس “ (المجموعة ص (124)
و قد يصبح الكتاب مكانا لممارسة شيطنة الأطفال دون أن يشاركهم السارد في ذلك ستروا” جسدها الجميل بالألواح على شكل سياج، وأكلوها. كانت الصغيرة تصيح وتبكي وكانوا هم جياع ضربني أحدهم بلوحة حادة السن، فسالت قروح راسي دما غزيراً (ص 124)
وأخيرا، وليس أخرا، هو مكان للتمييز بين أبناء الفقراء وأنباء الأغنياء ….. وتأتي حلقة الذكر التي يشارك فيها بعض المحضرة الذين لهم حظوة في الكتاب، وفي صدر الفقيه حب لآبائهم الذين يملكون (ص 14) هذا بالنسبة لأبناء الأغنياء. أما أبناء الفقراء فيخاطبهم الفقيه من خلال أخيه “خلافة” الذي عوضه لبرهة وجيزة، بهذا التحذير المستند إلى الوعد والوعيد احترس من نفسك. كن صارما مع هؤلاء “البغال” ص 122، و مع ذلك كان “خلافة” الساذج يسمح لهم بالكثير مما دفع بالسارد إلى الشعور “بحرية ما في هذا الجو البسيط” (ص 122).
لقد استطاع السارد أن ينتقل في كثير من الأحيان من مستوى المكان إلى مستوى الفضاء، مع غلبة الهاجس التوثيقي الذي استبد بالسارد مخافة من ضياع الأمكنة ضياع الأمكنة ضياع للذكرى، وفي ضياع الذكرى ضياع لفضاء الأحلام المجهضة والرغبات الدفينة.
الانتقال من المكان إلى الفضاء، هو انتقال من التاريخ الفردي إلى التاريخ الجماعي. وكل اسم من أسماء الأمكنة الواردة في هذه المجموعة، و بنصوص أخرى، يعكس تاريخ الأفراد، و من خلالهم تاريخ السلالة التي كان أفرادها القادمون من كل فج عميق، قوائم هذه المدينة وسواربها. إنها قوائم من لحم و دم و سوار من عرق و دمع استوى في ذلك العالم والجاهل والمرأة والرجل و المومس والخادمة في دور الأجانب و من تشبه بهم استوى في ذلك العامل والفلاح، و “الهومار” و النادل والمتأمرك وقبله المتفرنس، ومن سار على هديه من أبناء الحواضر الكبرى الزاحفين على هذا الفضاء بلهجاتهم و لثغاتهم المدغدغة وخبرتهم الواسعة في التجارة و المال و معجمهم المفتوح على كل اللغات والشرائح والأوضاع.
III– الزمن: كما يحدث في الحكاية الشعبية يصبح الزمن زمن القيم الذي قد تقترب منه الشخصية أو قد تبتعد عنه و لي كل الأحوال إنه “زمن” أولاد الحرام” (ص 134 مرتان. و هذا يقتضي صراعا لا مؤمنه بين الخير والشرير بين ماهو كائن وما يجب أن يكون غير أن تجسيد هذه القيم لم يكن بالأمر السهل، بعد أن أخذ ممثلوها يتناقصون أو ينحرفون في حين ظل السارد متمسكا بموقفه “الدونكشوتي” دون هوادة وهذا ما خلق التعارض الدائم بين السارد والمدينة القائمة دون أن يتخلى عن المدينة المفترضة.
“الغربان”
اختياري لهذا النص يعود إلى اختيار سابق على هذا الاختيار. فالعنوان من اختيار الكاتب، ومعنى ذلك أن النص يحقق أهم ما يريد الكاتب تبليغه في برنامجه السردي. وأهم ما يميز هذا البرنامج و هذا شأن معظم نصوص الكاتب – استناده إلى ضمير المتكلم الذي يعكس كما سبقت الإشارة – هاجس التوثيق المستبد ب “سارد” حريص على ترسيخ أوضاع مدينة كانت وراء – من ناحية أخرى غنى التجربة الحياتية للسارد وخصوبتها على مستوى المحكي الخاص والعام كما أن هذا الضمير هو ضمير السرد الطفلي الذي يقدم العالم (الواقع) من خلال عيني طفل يتقدم نحو اليفاعة و من ثم السارد صاحب رؤية تنظر إلى الواقع من خلال عالمين: عالم الكبار وعالم الصغار عبر مستويات التعارض التي طالت العديد من جوانبهما على الشكل التالي:
الطفل #الأسرة (الأم الأب الأخ الأكبر …)
الطفل # المدينة الشعبية الفقر و انعكاساته/ الفقيه/ الأمراض الاجتماعية المتعددة) التي حولت الناس إلى قطيع / المؤذن وأدواره الإيديولوجية
الطفل #المدينة الجديدة (سلطة المال/ الدعارة/ الاحتيال..الخ)
بين العالمين يتأجج الصراع الذي غلفته اللغة أو لغتان أساسيتان: لغة الأطفال العفوية الفاضحة، المتمردة على كل أشكال الزيف والقهر. ولغة الكبار القائمة على ترسانة من الملفوظات ذات المرجعية الهجائية المترددة على اللسان الشعبي، أو من ناحية ثانية قد تغلف بمسحة دينية، أو قد من ناحية ثالثة قد تمتح من معجم القوة والسلطة والاضطهاد وعبر هذه المستويات الثلاثة يكون القاسم المشترك المتحكم في أبعادها كامنا في جانبين:
-1 جانب الفضح والتشهير بممارسات الكبار وبالتالي بممارسات المجتمع “كان أبي يمثل دور البطل أمي تمثل دور الزوجة المسرورة. كان الأولاد لا يمثلون شيئا… (المجموعة ص (137) والإشارة الأخيرة واضحة الدلالة في سياق التعارض بين الموقعين
-2- أما الجانب الثاني من هذا القاسم المشترك فيتجسد في اللغة الدارجة التي أطرت لغتي الكبار والصغار ومن ثم جعلت الكبار أداة السيطرة واستمرار السلطة القامعة للأسرة وبالتالي للمجتمع. وجعلت – من ناحية ثانية من لغة الأطفال أداة لإبراز المفارقات المبكية المضحكة التي يقع فيها الكبار قبل الصغار.
في المستوى الأول – مستوى الكبار نجد اللغة الزاجرة التي لا تنتظر جوابا بل تنتظر تنفيذا وخضوعا و من ثم ينعدم الحوار – أداة ودلالة ما دام الكبير الصادر عنه الحوار لا يعترف بالصغير الخاضع لسلطته. ويبرز ذلك جليا في هذه اللازمة التي تكررت في مواقع عديدة من قصة “الغربان” تلك هي لازمة اسمع يا راس الحلوف” (ص 129/ص ( 133/132/131/130 )
وفي المستوى الثاني نجد “المونولوج” المتمرد على سلطة المتحكم في الكلام أو الحوار (الأب) و لكنه، في الوقت ذاته، يتجه نحو المتلقي الموجود خارج النص بعد أن يئس من وجود متلق داخل النص بحكم خضوعه للتدجين أو الخوف. أود -من ناحية اخرى- قد يتحول الحوار الصادر عن الطفل إلى حوار مضاد يعكس حالة التمرد بعد الوصول إلى حالة اليأس اليأس من إصلاح الأب و من وراءه.
و القصة، من خلال ما سبق، تعكس هذا الوضع المشدود بين الطرفين خلال أساليب مديدة ارتكزت على صياغة السارد لعالمه الخاص، عالم الأطفال الذي لم يعد عالما للبراءة الزائفة من جهة، أو للحلم والهروب من جهة ثانية، بل أصبح فضاء لتحقيق العدل وإعادة الاعتبار لقيم مفتقدة.
و مكون هذا العالم المركزي يكمن في الطبيعة من مراع وطيور و أمطار و حمام وعربات و حمير وكلاب كل تلك المؤثثات أداة لتحقيق العدل المفقود من خلال الآتي:
-1- لا تبقى الطبيعة حبيسة الفضاء الريفي بل يتم نقلها إلى الفضاء المديني. إنها عدة وعتاد الطفل عبر الوسائط التالية:
ا- وسيط التعاطف الهادئ بين مظاهر الطبيعة و وضعية الطفل البئيسة وهو يواجه أشكال الاضطهاد. “ضحكت الشمس قليلا وهي تغمزني بين شقوق السحب” (المجموعة ص (129) / ضحك سرب الحمام صفق الجناح مال على ساحة المولى يوسف و ابتعد ( ص 136) كان كلبي سعيدا في جلدته” (ص 137).
ب- وسيط التعاطف الغاضب الذي يدفع بالسارد إلى تحريك عناصر الطبيعة انتقاما للطفل الحاجز و لكل المظلومين، فالغربان التي كانت تحوم في سماء المراعي انتقلت الآن إلى ساحة مولاي يوسف لتهاجم الناس كما حدث في شريط “الطيور” ل “هتشكوك”. والفرق بينهما يكمن في كون هذا الأخير يوجه رسالة عنيفة للذين أخلوا بالتوازن البيئي بأساليب عديدة، في حين يوجه ساردنا في قصة “الغربان” رسالة واضحة امتزج فيها جوع الغربان بجوع الإنسان الغربان تحوم في السماء جائعة (…). اسود الأفق بأسراب الغربان. غطت الساحة الجائعة (المجموعة ص 137)
-2- و انتقال الطبيعة من الريف إلى المدينة دفع بالسارد إلى خلق مزيج دلالي تداخلت فيه وظيفة الإنسان بوظيفة الحيوان بل انتقل فيه ما هو مخلوق للإنسان إلى الحيوان، والعكس بالعكس صحيح . توضح الأمثلة التالية هذا المزج المتعمد للوظيفتين.
ا- “تبول المؤذن على الطوار نهقت الحمير فرحا” ص 133.
ب- “ابتسم النادل أكثر ضحكت الحمير وشكرتني” . 134.
ج- “ضحكت الحمير فرحا كانت فتاة ترقص على نغمات باعزوز بشويا”
د- “تبول المؤذن على الطوار. نام كلبي الأسود على ظهره. رفع قوائمه و فتح فمه واسعا” ص 134.
ه- “قفز قرع الدف و انتظم على أيدي نسوة، كانت تسبقهن عربة يجرها حصان مريض. نهقت الحمير فرحا ، ضحك النادل ومسح وجه المائدة… ص 134
و- “انطلقت أسراب فتيات مدرسة التقدم في استعراض جمالي (…) نهقت الحمير فرحا (المجموعة (ص 135 ) 3
-3- و هناك العديد من الصور الأخرى القائمة على علاقات المشابهة و أساليب الاستعارة والكناية التي تؤدي إلى ترسيخ تحول الصورة الآدمية إلى صورة حيوانية بامتياز وقد تنوعت فيها مستويات الدلالة فالنهيق (حرف (أ) لا يصدر إلا في سياق الاحتجاج على فعل شائن صادر عن المؤذن. أما بالنسبة للمثال الثاني (حرف (ب) فيعكس رفض السارد النفاق النادل و المثال الثالث نقد للقطيع بعيدا عن أية شعبوية المدجن بالكبت و الجهل كما هو الشأن في المثال الأخير (حرف و)
الحمير، إذن هي الحمير البشرية السائرة و السادرة أيضا، في نومها الأبدي. إنها تسير بالفعل، ولكن سيرها يظل مرتبطا بالنوم الدائم قبل اليقظة.
غير أن استعمال الحيوان لا يظل مرتبطا بأهداف السارد في العدل والنقد والإصلاح، بل قد يصبح أداة لدى (الآخر) المضطهد سواء كان أبا أو نادلا أو محصل ضرائب أو فقيها أو مؤذنا . إنهم ينتسبون – كما أطلق عليهم السارد – إلى زمن أولاد الحرام (ص 134 مرتان). ومثال “رأس” “الحلوف” – اللازمة الأثيرة لدى الأب أحسن مثال على ذلك. ف “الحلوف” الصادر عن الأب يوظف للإهانة والتدمير و محو شخصية الطفل أو اليافع.
العالم في الغربان إذن عالمان: عالم الإنسان و عالم “الحلاليف” أو الحيوان و ما بينهم يضيق ويتسع حسب أوضاع السارد السردية والنفسية داخل النص.
و لتجاوز هذا الخلل، وحتى لا يتحول الإنسان إلى حيوان، لم يجد السارد أمامه إلا المعرفة أو الكتب، طوق النجاة الوحيد في هذه المعركة الشرسة في المقطع الحواري الأخير من النص نجد الآتي “أفسدتك الكتب يا راس الحلوف نعم أفسدتني الكتب ” (المجموعة ص 137)
المعرفة -بالمعنى الواسع- أداة لاكتشاف قوانين اللعبة التي تحكمت فيها أطراف عديدة و لذلك استند النص وهو أسلوب “مبارك الدريبي” رحمه الله البارز في معظم نصوصه.. إلى طريق الفضح والتعرية بدون هوادة لصانعيها. و من ثم فبقدر ما يكشف السارد عن ماض بريء تحقق أيضا في البراءة الأولى، براءة الأطفال، يكشف، في الوقت ذاته، عن رفض لهذا الماضي الذي أنتج أطفالا كبارا قبل الأوان بسبب انتمائهم إلى فضاء قائم على تحالف الأجنبي مع مالكي الثروة من جهة، وتحالف من جهة ثانية المعمرين الجدد في مرحلة الاستقلال من مروجي الجهل والمستثمرين لسذاجة الناس وممتلكاتهم الواعية أو غير الواعية في الممارسة اليومية كان أبي يمثل دور البطل أمي تمثل دور الزوجة المسرورة. كان الأولاد لا يمثلون شيئا” (المجموعة ص 137). السارد، في هذه القصة وفي معظم قصص “مبارك الدريبي” هو الحاكي والحاكي المضاد، الواصف والمعلق المدمر و الباني، المادح والهجاء، الباكي والضاحك الذاكرة الفردية والذاكرة الجماعية. وفي كل هذه الأحوال يتساءل السارد بقوله: سألت نفسي ببلاهة لم يجر أصحاب الكتب عربات الموتى..” (المجموعة ص (132) و في مكان آخر صديقي أكل التفاحة واجرانا عربة الموتى.” (المجموعة ص (131)
إنها لحظة يأس قد تنتاب السارد بين حين وآخر دون أن يمنعه ذلك من متابعة سرده، وسرده المضاد لمظاهر هذا السيرك الضاحك المبكي.
عود على بدء كان السرد عند “مبارك الدريبي نابعا – كما سبقت الإشارة في البداية من مرجعية الشفهية قبل مرجعية الثقافة العالمة أو الثقافة المكتوبة وحيوية هذه التجربة تمتح من ثراء تجربة السارد المرابط بين هذه الجموع طوال حياته، موظفا ما سبقت الإشارة إليه من شخصيات و وقائع و فضاءات مدعما ذلك ب:
(1) توظيف المسكوكات المتداولة من أمثال و حكم و مقاطع غنائية شفهية جرت على الألسن في مواقع ومواقف متعددة. واشتغال هذه المسكوكات داخل النص خلق دينامية اللغة وديناميكية الحكاية أيضا. (زمن) أولاد الحرام ماتت الأيام…) (2) تدريج الفصيح وتفصيح الدارج بلغة وظيفية القرب إلى المتناول. والأمثلة التالية توضح ذلك:
“قميص أمي على جلدتي” ص 128
“اشرب الدم و اضحك مع البحر” 132/130
“ماتت الأيام يا خردامی” ص 131
“جسد ميت كدودة التبع” ص 131
“الديدان بالمؤخرات” ص 135
“مسح وجه المائدة” ص 134
3) الحفاظ على المنطوق، صوتا و إيقاعا و لهجة. فاللسان الدارج لموظف في نصوص مبارك الدريبي” يعود إلى اللهجة المتداولة بالمدينة، أي بالقنطرة، عبر تفاعلاتها الأجنبية (الفرنسيون و الأمريكان والأسبان والبرتغاليون والإيطاليون) (جو توكس أو آلة الموسيقى باللسان الأمريكي\ عبارة “بون لوجي” أي السكن الجيد بالفرنسية..الخ) ثم اللهجات المحلية من أمازيغية (تيمولييت) أو غرباوية المنتمية إلى رصيد غني من لهجات القبائل الحوزية خاصة، ودورها في بناء فضاء متعدد اللغات واللهجات والتجارب
4) ومع ذلك، يستطيع الدارس اللساني أن يلاحظ تشابه المعجمين: معجم الفصيح ومعجم اللهجة بمدينة القنيطرة (مثلا يمكن الاستفادة من قواعد التشابه المعجمي مع مراعاة الاختلاف الدلالي في هذا السياق.
من هنا فالمتكلم والقصة عند الدريبي والسرد عامة يقوم على تشغيل جهاز القواعد المعجمية المشتركة في العربية الفصيحة و العربية الدارجة
مثلا: اللازمة الحوارية: اشرب الدم أو اضحك مع البحر – عربية فصيحة شرب دم ضحك مع لبحر – عربية دارجية = مادة معجمية واحدة دلالة واحدة مع مراعاة اختلاف البنيات التركيبية والصوتية علما أن الشفهي بالقنيطرة مكتسب عبر عوامل عديدة الاقتراض اللهجات القادمة مع المهاجرين المستوطنين للمدينة..الخ) وبالمقابل نجد اللغة العربية المعيارية الخاضعة للتعلم و المتسمة بالثبات بخلاف اللهجة الدائمة التطور والنمو. من هنا كان مجال الخصوصية والإبداع المعجمي عند “مبارك الدريبي” يعود إلى هذا التلاقح اللهجي بين ملتقى اللهجات الذي توفر في مدينة منفتحة على كل الروافد التعبيرية.
و من ناحية أخرى كان مبارك الدريبي” و هذا قانون عام يمارس هذا الإبداع توليدا ودلالة من خلال الأداة التعبيرية وهو موقف إديولوجي أيضا الأقرب إليه، وهي اللهجة المتداولة قبل اللغة المعيارية، علما أن “مبارك الدريبي” لم يكن، كما هو الشأن للعديد من كتاب القصة المغاربة، صاحب مرجعية سردية ترتبط بالقصة العربية من خلال أعلامها الكبار وطنيا وعربيا، كان عصاميا في الحياة والكتابة، ومعظم قراءاته كانت نابعة من الحياة من جهة، و من متصرف بالفرنسية، لمجالات أخرى بعيدة عن الأدب.
هكذا كان مبارك الدريبي ممارسا للإبداع القصصي عبر اللهجات اللهجات السائدة أولا، ثم عبر تحويل جديد بواسطة ثانيا- اللغة العربية المعيارية التي تظل مع ذلك حاملة للوشم اللهجي صوتا ورائحة وطعما.
كما أن المستوى التركيبي يحتفل بترتيب اسمي (فاعل/فعل/مفعول به) بخلاف اللغة العربية المعيارية المحافظة على التراتبية الشائعة (فعل فاعل مفعول به) فالجملة الأولى في قصة “الغربان” تبدأ بالتركيب الاسمي (المطر يتساقط والسحب السوداء) الذي بلغ ما يزيد عن عشرين مقطعا أو جملة سردية استندت إلى توظيف عنصر الرتبة ( ص 128) الابتداء الفاعل انتصارا لهذه اللهجة
5) من أهم الملاحظات في مجال التعبير، غياب أدوات الوصل، و أدوات الربط (العطف مثلا) مما يؤكد على طابع الكلام قبل الكتابة.
هكذا كان “مبارك الدريبي” حلقة من حلقات الرواة و الحكائين و استطاع أن يجعل من الحكاية حكاية مدينة دون غيرها مما حولها إلى “أسطورة تداخل فيها الواقع بالحقيقة، والعشق بالغضب والكتابة بالأحلام
هامش:
مبارك الدريبي (1939- 1996)
• سجن في الخامسة عشرة من عمره طوال سنتين بتهمة المقاومة ضد المستعمر.
• كون نفسه بنفسه و عرف بعصاميته في الكتابة والحياة .
• مارس الكتابة القصصية منذ الستينات من القرن الماضي دون الخضوع لنظرية قصصية محددة أو مدرسة سردية معينة.
• أصدر الأعمال التالية:
1) “عيون تحت الليل” مجموعة قصص – اتحاد الكتاب العرب.
2) “طيور المساء” (رواية) – آلمنشأة العامة للنشر والتوزيع والإعلان – ليبيا – 1984.
3) “الغريان” – مجموعة قصص – دار البوكيلي للطباعة والنشر والتوزيع القنيطرة 1995.