سيصدر للأستاذ الدكتور مصطفى يعلى قريبا إن شاء الله كتاب: “في حضرة القصة القصيرة و القصص الشعبي إضاءات مقدماتية وحوارية” تحت إشراف و تقديم أ.د. أبو بكر العزاوي
وفيما يلي يسرنا أن ننشر هنا مقدمة الكتاب:
اسـتـهــــلال:
بقلم: أ.د. مصطفى يعلى
اعتدنا على قراءة السير الذاتية لكثير من الأعلام، منجزة من لدنهم خلال الفترات الأخيرة من مسارهم، في حقل تخصص كل منهم، وأيضا على تلقي تراجم غيرية ضافية، كتبها غيرهم عنهم؛ وذلك من أجل إزاحة الأقنعة عن شخصياتهم، والاقتراب منهم، ومن أعمالهم أكثر، قراءة وتأويلا.
وبالتأكيد، فإن أهمية خطاب السير والتراجم، باعتباره محكي حياة، تتأتى ـ فضلا عن القيمة الأدبية ـ من كون نصوصه تتيح إمكانية استكناه مختلف مراحل حياة أولئك الأعلام ومؤثراتها، وتلمس ما اغتنت به تجاربهم إيجابا وسلبا، إضافة إلى استجلاء طبيعة نفسياتهم، وحقائق أسرارهم وطرائفهم، والوقوف على واقع بيئاتهم وعصورهم، وكذا إضاءة ما أنجزوه من إضافات فكرية، أوعلمية ، أو فنية، أو إبداعية للتراث الإنساني، تستمتع به وتستفيد منه كل البشرية، وتتعالق في نفس الآن بسير ذواتهم، على سبيل استكمال صور شخصياتهم من مختلف الأبعاد والمواصفات.
وإذا كان البعد الوظيفي للسير الذاتية، وللتراجم الغيرية، يتجسد أولا في إضاءة حيوات الأعلام، وتقريب خلفيات وأسرار منجزاتهم من المتلقي، في إطار جمالي سردي مخصوص؛ فمن الملاحظ أن معظم السير والتراجم العربية، على قلتها قياسا لحجم ونوعية ما كتب في الغرب من سير ذاتية صريحة، غالبا ما تمت من خارج منجزات أصحابها، مكتفية بالمرور على سطوحها إن وجدت، ولم تعمد إلى التغلغل عموديا في عمق دواخلها، ووضع اليد على أدق وأبرز سماتها، بله انتكاسها عن استنطاق المسكوت عنه، بما قد ينوء به من أعطاب أخلاقية، ورثاثات سلوكية، وعيوب تبدو لأصحابها معيبة، عكس ما هو وارد من بوح صريح، في كثير من سير ذاتية غربية شجاعة، كما هو الحال في (اعترافات) جان جاك روسو، على سبيل التمثيل وليس الحصر. الأمر الذي جعل معظم تلك السير والتراجم، بتمركز محكيها على ذوات أصحابها، أقرب ما تكون إلى خانة العرض التأريخي أو الاجتماعي، منها إلى فاعلية إضاءة تلك المنجزات، ورفعها إلى مستوى النص الموازي والوظيفة العتباتية، أو إلى عملية الإجراء التحليلي والتأويلي المطلوب، بهدف تحسين ظروف تلقيها، تذوقا وفهما واستيعابا واستفادة مضافة.
وها هنا بين دفتي هذا الكتاب، مخالفة لميثاق السيرة الذاتية، كما تواطأ عليه كتابها ومتلقوها، مما يخيّب أفق انتظار المتلقي المعتاد على تصور مسبق لمعيارية السيرة الذاتية، باعتبارها نوعا سرديا مخصوصا بحصر المعنى، و((قصة كيف أصبحت حياة ما كانته، وكيف أصبحت نفس ما هي عليه))(1). بل إنها أشتات متفرقات من حياة وإنتاج مُعٍدِّ الكتاب، يمكن اعتبارها مادة مرجعية، من شأنها أن توفر نواة سيرية متماسكة، صالحة لتركيب نمذجة مصغرة لما يمكن وصفه بكونه (سيرة إنتاج)، إلى جانب اعتباره (رحلة حياة).
ولإزالة ما يمكن أن يستشعره المتلقي من التباس أجناسي، نشير إلى أن السيرة الذاتية من حيث نوعيتها السردية، رغم أنها ((حكي استعادي نثري يقوم به شخص واقعي عن وجوده الخاص، وذلك عندما يركز على حياته الفردية وعلى تاريخ شخصيته، بصفة خاصة))،(2) فهي من جانب آخر تعتبر أيضا ((نوعا قابلا لاحتضان عدة نصوص بدءا من روسو وصولا إلى أفكار باسكال، أو «خطاب المنهج» لديكارت))(3).
وعليه، فإن حفريات تلك الأشتات، تسعى إلى رسم صورة تقريبية لما وشم السيرورة الطويلة، المتطورة لصاحب الكتاب، خلال عمر الكتابة والإبداع لديه، ممتدا في الزمن والمكان، ليس من بواعث الكتابة النصية عن الذات، كما هو معهود في السير الذاتية التقليدية، وإن بثت هنا وهناك بعض محطات حياته، بل عن طريق طرح ملامح العطاء الإبداعي والنقدي، من خلال ما حبّره بقلمه وبضمير المتكلم من مقدمات، وأيضا من ثنايا ما أُجري معه من حوارات، استجابة لرغبة مبدعين وباحثين وإعلاميين جادين.
فبالنسبة لما صاغه من إبداع، في نوع سردي محدد ومفضل لديه، هو القصة القصيرة، سيلاحظ المتلقي من المقدمات المركزة والحوارات المطولة، أنه قد تشرب منذ البداية ضرورة خطب ودّ هذه الأميرة المبجلة، بإقبال مخلص على فتونها، وبذل الجهد المضني لتطوير تجربته القصصية المخصوصة، علما بأنه قد حاول ما أمكن الجمع بين الموهبة والوعي بنظرية القصة القصيرة. وكل هذا يتأكد من تنويهاته أو نقوده أو اقتراحاته، المبثوثة بين طيات المقدمات التي كتبها للمجاميع الإبداعية، قصصا قصيرة وقصصا قصيرة جدا. كما يبرز أيضا عبر إجاباته على مختلف أسئلة الحوارات التي أجريت معه.
على أن إضبارة الحوارات هنا في الكتاب، فضلا عن طرح رؤية الكاتب، تجاه عدد من القضايا الساخنة فيها، من مثل معضلة التعليم، ومشكل اللغة، وواقع النقد، وإشكالية الثقافة، تتيح إنارة مسارين آخرين بسيرة الكتابة ورحلة الذات، يتقاطعان مع ممارسته الإبداعية بحقل القصة القصيرة، فيما يشبه مسلكا موازيا لتطور تلك الممارسة الإبداعية. والمقصود بهما الاشتغال بتصنيف بيبليوغرافيات السرد المغربي، والتخصص في القصص الشعبي على المستوى الأكاديمي؛ مما جعل منظومة نزوعه الإبداعي واهتمامه البحثي، تتمركز خلال عقود طويلة، في حقل واحد عينه هو حقل السرد.
بقي أن نشير، إلى أن ترتيب المقدمات قد خضع للنوعية الآجناسية، بينما رتبت الحوارات كرونولوجيا، ما عدا جمع الحوارات المتعددة حول محور واحد، بغض النظر عن تباعد أزمنتها، حتى يتضح ما يمكن أن يكون قد داخل مسار رؤية المؤلف للكتابة والإبداع والحياة. ولا يفوتني أن أعرب عن امتناني لكل الإخوة والأخوات، الذين شرفوني بكتابة مقدمات كتبهم، وإجراء الحوارات المختلفة معي، مما مكنني من أن أنثر هنا وهناك تصوراتي وقناعاتي وذكريات فترات من حياتي، مما يبلور ما يشبه السيرة والرحلة.
هوامش
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1) فيليب لوجون: السيرة الذاتية ـ الميثاق والتاريخ الأدبي، ترجمة وتقديم عمر حلي، المركز الثقافي العربي، بيروت، ط. 1 / 1994، ص. 22.
2) ولاس مارتن: نظريات السرد الحديثة، تر. د. حياة جاسم محمد، المجلس الأعلى للثقافة، سل. المشروع القومي للترجمة، رقم 36، القاهرة، 1998، ص. 99.
3) المرجع السابق، ص. 11.